الشَّيْخ معين دقيق
غالباً ما يكون الاعتقاد الشائع بفكرةٍ ما نفياً أو إثباتاً من الأمور الفطرية، ولا يعني الاختلاف فيها، أو في بعض تفصيلاتها، ضرورة خروجها عن حيّز الفطرية. وهذا ما سنحاول تطبيقه على فكرة العقيدة المهدوية، في هذا المقال, ولكن لمّا كان فهم ذلك يتوقّف على معرفة حقيقة الأمر الفطري وخصائصه فالأوْلى أنْ نبدأ به في الأسطر القليلة القادمة.
* الفطرة لغةً واصطلاحاً
لقد استخدم القرآن الكريم مشتقات كلمة (الفطرة) في أكثر من موضع من آياته. لكن هناك آية واحدة اختصّت بكلمة "الفطرة"، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30). وقد وردت لفظة (الفطرة) بمعانٍ مختلفة في أقوال أهل اللغة والمعاجم، ولكنّ المشترك بين جميعها أنَّها تأتي بمعنى الخلقة. قال ابن فارس: "الفاء والطاء والرّاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على فتح شيءٍ وإبرازه، من ذلك الفطر من الصوم... ومنه الفَطر، بفتح الفاء، وهو مصدر فطرت الشاة فطراً، إذا حلبتها... والفِطرة: الخلقة" (1). وقال ابن منظور: "والفِطْرةُ، بالكسر: الخِلْقة". وأمّا في الاصطلاح، فقد قال الفيلسوف الفرنسي، ديكارت عام 1643م: "الأُمور الفطرية عبارة عن المعلومات البدائية الأصيلة التي نتوصل بها إلى سائر لمعارف، وهي قليلة جداً" .
ويرى الفيلسوف الإلهي الملّا صدرا(ت:1050هـ) أنَّ الأمور الفطرية هي التي أودعها الله في الطبائع (2)؛ ولذا شاع إطلاقها في المعارف الإسلامية على أنّها مجموعة من الصّفات والقابليّات التي تُخلق مع المولود، ويتّصف بها الإنسان في أصل خلقته سواء القابليّات البدنيّة، أم النفسيّة، أم العقليّة.
* خصائص الأمور الفطرية
للأُمور الفطرية خصائص يمكن أنْ نُشير إِلَى أهمّها:
أوّلاً: إنَّها عامّة، توجد في جميع أفراد النّوع (الإنسان).
ثانياً: إنَّ أصل وجودها لا يحتاج إِلَى اكتساب وتعلُّم، بل هي موجودة في بدايات حياة النّوع عندما يكون مجرّداً عن أيّ استعدادٍ فعليٍّ للاكتساب والتعلُّم، وإنْ كان للكسب والتعلُّم دورٌ في تنميتها وتطويرها.
ثالثاً: إنَّ عدم الاعتناء والاشتغال بها يؤدّي إِلَى إضعافها واضمحلالها بشكلٍ سريع.
* فطرية العقيدة المهدوية
وعندما ندّعي فطرية العقيدة المهدوية لا نقصد بذلك ما فيها من تفصيلات وتسميات، بل المضمون الكلِّي لهذا الاعتقاد المشترك بين جميع الأديان والمدارس الفكرَّية. ففكرة المهدويَّة المتمثّلة بجملةٍ بسيطةٍ يمكن التَّعبير عنها بقولنا: "التطلُّع الإنساني نحو يوم تسود فيه العدالة ربوع العالم ويزول عنه الظّلم والجور، وتتحقّق فيه الأهداف النهائية للإصلاح". هذه الفكرة ومع قطع النَّظر عن الشَّخصيَّة التي تحقّقها وتسمياتها ندّعي أنَّها فكرة وعقيدة فطرية، جُبِل عليها الإنسان مهما تنوّعت آراؤه ومعتقداته الدينيَّة والفكريَّة. وفطريَّة هذه العقيدة في الواقع ليست على نحو الاستقلال، بل هي ترتبط بفطريَّة أمر آخر تندرج تحته، ألا وهو رفض الإنسان للظّلم ومبارزته له والانتصار عليه. وإن شئتَ فقل: إِنَّ الإيمان بالفكرة التي يجسّدها المهدي الموعود عجل الله فرجه هو من أكثر وأشدّ الأفكار انتشاراً بين بني الإنسان كافة؛ لأنه يستند إِلَى فطرة التّطلع للكمال بأشمل صوره، أيْ إنَّه يعبّر عن حاجةٍ فطريَّة، ولذلك فتحقّقه حتمي؛ لأنَّ الفطرة لا تطلب ما هو غير موجود، كما هو معلوم.
* المهدي عجل الله فرجه.. طموح الأديان
وفي هذا المجال يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره: "ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوانٌ لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله على تنوع عقائدهم ووسائلهم إِلَى الغيب أنَّ للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض تحقق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل، ولم يقتصر هذا الشعور الغيبي، والمستقبل المنتظر، على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدّ إِلَى غيرهم، أيضاً وانعكس حتى على أشدِّ الأيديولوجيات والاتجاهات رفضاً للغيب، كالمادّية الجدليّة التي فسّرت التاريخ على أساس التناقضات وآمنت بيوم موعود تُصفّى فيه كل تلك التناقضات ويسودُ فيه الوئامُ والسلامُ. وهكذا نجد أنَّ التجربة النفسية لهذا الشعور والتي مارستها الإنسانية على مرّ الزمن من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين بني الإنسان" (3).
والملاحظ في النَّصّ المتقدّم أنَّ الشهيد الصدر"قده" يريد أنْ يستشهد على فطرية العقيدة المهدوية بعموميتها عند جميع الملل والنحل. ولكي يكون هذا الأمر واضحاً ننقل بعض الكلمات، ولكن في القسم الثاني من هذا المقال، والتي تدلّل على عموميّة الاعتقاد وبالتالي كونه من قبيل الإلهام الفطري عند بني البشر. ..هذا، والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً...
(1) معجم مقاييس اللُّغة، أحمد بن فارس، ص 510.
(2) المبدأ والمعاد، الملا صدرا، ص 438.
(3) البحث حول المهدي، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 54.