مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: الإمام الصادق عليه السلام: جهاده وشهادته

الشيخ محمود عبد الجليل

 



أدرك الإمام الصادق عليه السلام نحواً من خمسين عاماً (83هـ-132هـ) من الدولة الأمويّة، منذ أوْج قوّتها وعنفوانها، وصولاً إلى غاية انحدارها وانهيارها، وكانت مليئة بالأحداث المؤلمة، حيث شاهد فيها عليه السلام الظلم، والحيف، والإرهاب من بني أميّة ضدّ المسلمين، وضدّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم بشكلٍ خاص.

وأدرك عليه السلام نحواً من خمسة عشر عاماً (132هـ-148هـ) من الدولة العبّاسيّة، التي لم يكن حكّامها أشفى حالاً من الأمويّين والمروانيّين، حيث اتّسمت تلك الفترة بالعداء والملاحقة، وقد وصل هذا الظلم إلى حدّ أنّ إبراهيم بن هرمة، المعاصر للمنصور الدوانيقي، دخل إلى المدينة، وأتاه رجل من العلويّين فسلّم عليه، فقال له إبراهيم: تنحّ عنّي ولا تشط بدمي(1).
وحتّى قال بعضهم:
تالله ما فعلت أميّة فيهم
معشار ما فعلته بنو العبّاس


•جهاد الإمام الصادق عليه السلام
إنّ حياة الإمام الصادق عليه السلام خاصّة من الزاوية الثوريّة والمواجهة، والعمل على تشكيل الحكومة الإسلاميّة، قد شابها كثيرٌ من الغموض والإبهام بسبب الظروف القاسية التي مرّ بها، خاصّةً فترة الحكم العباسيّ. وهذا ما يوضّحه الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان الإمام الصادق عليه السلام رجل الجهاد والمواجهة، ورجل العلم والمعرفة، ورجل التنظيم والتشكيلات، ولكن سمعتم أكثر عن علمه ومعرفته، فمحافل دراسته وميادين تعليمه التي أوجدها، لم يكن لها نظير في تاريخ حياة أئمّة الشيعة، لا قبله ولا بعده...، لقد كان الإمام الصادق عليه السلام مشغولاً بجهاد واسع النطاق، الجهاد من أجل الإمساك بالحكومة والسلطة؛ لتأسيس حكومة إسلاميّة وعلويّة"(2).

•جهاده العلميّ عليه السلام
استطاع الإمام الصادق عليه السلام الإبحار بمدرسة أهل البيت عليهم السلام في فروعها وميادينها العلميّة والمعرفيّة في الآفاق جميعها، وانفتح على الطرق، والمذاهب، والنِّحَل كلّها، واستوعب حتّى أولئك الذين شذّ بهم المسار ممّن كانوا حوله.

وقد كانت الفرصة ثمينة جدّاً للإمام عليه السلام، حيث لم تسنح لغيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. فالضعف الذي كان يدبّ في جسم الدولة الأمويّة في نهاية عهدها، وعدم استقرار الدولة العبّاسيّة في بداية عهدها، فسحا المجال أمام الإمام عليه السلام، ليمدّد مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويدعو الناس إليها، لاستماع الأحاديث، ونشر العلم بمختلف جوانبه، حتّى بلغ عدد طلّابه نحو أربعة آلاف طالب، فيهم العلماء، وأئمّة المذاهب.

•الإمام الصادق عليه السلام والثورات
لم يكن الإمام عليه السلام منفصلاً عن الثورات جميعها، سواء التي خرجت على الأمويّين أو العباسيّين، بل كان يدعمها بشكلٍ أو بآخر بالتوجيهات، والمال، والدعاء، ويلاحَظ ذلك، وبشكلٍ واضح، في ثورة زيد الشهيد، وفي رجوع الحسنيّين الذين خرجوا بثوراتهم إلى الإمام واستشارته عليه السلام.

بيْد أنَّه عليه السلام كان يراقب تلك التحرّكات، ويتعامل معها بحسب المصلحة، وهو يعلم بعواقب الأمور، وخصوصاً عندما آل الأمر إلى المنصور الدوانيقي العبّاسيّ، الذي يصفه المؤرّخون: كان المنصور خدّاعاً لا يتردّد في سفك الدماء، وكان سادراً في بطشه، مستهتراً في فكته(3). يقول الطبري: إنّه ترك خزانة فيها رؤوس من العلويّين، وقد علَّق في كلّ رأس ورقة كتب فيها ما يستدلّ على اسمه واسم أبيه، ومنهم شيوخ، وشبّان، وأطفال(4). وتوعَّد الإمام الصادق عليه السلام بالقتل، حيث ذكر ابن شهر آشوب أنّ المنصور هذا قال للصادق عليه السلام: لأقتلنّك، ولأقتلنّ أهلك حتّى لا أُبقي على الأرض منكم قامة سوط(5)، ما جعل الإمام يعتمد أساليب مختلفة من المواجهة.

•أساليب مواجهة الحكم العباسيّ
1- المواجهة السياسيّة الخفيَّة: لإثبات عدم تمتّع جهاز الحكم بالوعي الدينيّ، وعجزه عن إدارة الأمور الفكريّة للناس، وهذا يعني في الواقع عدم أهليّته للتصدّي لمقام الخلافة، باعتبار ضرورة تلازم مقام الخلافة مع العلم، وعدم صحّة اتّباع غير الأعلم، كما تشير الروايات. ومن هنا، صرَّح الإمام عليه السلام بقوله: "نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمن لا يعذر الناس بجهالته"(6). ومن الناحية العمليّة، فإنّ الإمام الصادق عليه السلام عندما يقوم بنشر العلوم والمعارف الإسلاميّة، وتفسير القرآن بمنهج مخالف لمنهج علماء البلاط، فإنّه بذلك يكون قد نهض لمعارضة الجهاز الحاكم، وهو بهذه الوسيلة كان يُخطِّئ جميع التشكيلات المذهبيّة والفقهيّة الرسميّة، ويعتبر جهاز الحكم خاوياً من ناحية البُعد الدينيّ.

2- التشكيلات السرّيّة: أي تشكيل كتلة ثوريّة مؤمنة، ومضحّية، ومخلصة، يتحرّك أفرادها نحو هدف واحد، وهو الحفاظ والدفاع عن مذهبهم، ويعملون على نشر الفكر الشيعيّ القاضي بالاعتقاد بضرورة اتّباع الإمام كقائد من دون التفكيك بين المجال الفكريّ والمجال السياسيّ. وهؤلاء كانوا منتشرين في أقطار الأرض، ويُدارون من قبل الإمام عليه السلام، ويعملون وفق توجيهاته، وإن كانت هذه التشكيلات مقرونةً بالغموض والإبهام، إلّا أنَّ الفاحص بدقَّة في سيرة الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم، يمكن له ملاحظة هذا الأمر.

3- تبيين الإمام أحقِّيَّته بالإمامة دون غيره: وأنّ إمامته ممتدَّة إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، فمن الأمور اللافتة أنّ الإمام كان يقول: "أيّها الناس، إنَّ رسول الله كان الإمام، ثمّ كان عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ.."(7). حيث كان يسكت عندما يصل إلى اسمه، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ من كان يستمع إلى حديثه، سيعلم أين هو ميراث العلم والإمامة بعد الإمام الباقر عليه السلام. وهو القائل عليه السلام: "نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال..."(8). وفي الأنفال وصفو المال دلالة على أنَّ هذه الموارد تقع تحت ولاية الحاكم ليصرفها في المصالح العامّة للمسلمين.

4- بروز أحاديث التقيّة وكتمان السرّ: حيث نجد أنّ معظم الروايات المرتبطة بالتقيّة وكتمان السرّ قد صدرت في زمان إمامته عليه السلام، وهي في واقعها تحمل دلالةً واضحةً على وجود أمر يجب إخفاؤه وعدم إظهاره. ولا شكّ في أنّ ذلك غير قضيّة علومهم ومعارفهم، والتي كانت ظاهرة للعيان وغير خافية على أحد، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ المذيع ليس كقاتلنا بسيفه، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً..."(9).

ولذلك نجد خاصّة أصحابه عليه السلام قد اهتمّوا بذلك أيّما اهتمام، حتّى إنّنا نجد ذلك الموالي المخلص المعلّى بن خنيس، وهو أحد أبرز المقرَّبين من الإمام، عندما استدعاه داود بن علي العبّاسيّ (عمّ الخليفة) الوالي على المدينة، والذي عُرف بشدّته وغلظته طالباً منه أن يكشف له عن أسماء شيعة الإمام، فكتمه، فقال: أتكتمني؟! أما إنّك إن كتمتني قتلتك، فقال المعلّى بن خنيس: بالقتل تهدّدني؟ والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإن قتلتني لتسعدني ولتشقيَنّ. فلم يكن من الوالي إلّا أن قتله وصلبه.

•أسلوب تعامل الخليفة العبّاسيّ مع الإمام الصادق عليه السلام
اعتمد المنصور الدوانيقي أساليب عدّة من أجل احتواء حركة الإمام الصادق عليه السلام، ليحدَّ بذلك من تأثيره، ويؤطِّره ضمن إطار الخلافة العباسيّة، ومنها:
1- أسلوب المهادنة، والذي يعتمد على اللّين والمرونة.
2- أسلوب نشر العيون والجواسيس، ومراقبة الإمام ورصد نشاطاته.
3- أسلوب التضعيف من مكانة الإمام عليه السلام العمليّة، والاعتماد على البدائل للنيل غير المباشر منه.
4- أسلوب استدعاء الإمام عليه السلام وتلفيق التهم له بأنّه يجمع المال والسلاح للخروج على الحاكم، والافتراء عليه، ومداهمة داره وإحراقها، وعزمه على قتله غير مرَّة، ولكن عندما كان يقع نظره على الإمام، كانت تأخذه مهابته، فيُعرض عن عزمه القتل.

•شهادة الإمام عليه السلام
ضاق المنصور ذرعاً بالإمام، فعزَمَ على قتله، وكان قد حكى ذلك لصاحب سرِّه، محمّد بن عبد الله الإسكندريّ، إذ يقول محمّد: دخلت على المنصور، فرأيته مغتمّاً، فقلت له: ما هذه الفكرة؟ فقال: يا محمّد، لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة ويزيدون، وبقي سيّدهم وإمامهم. فقلت: من ذلك؟ فقال: جعفر بن محمّد الصادق. فحاول محمّد أن يصرفه عنه، فقال له: إنّه رجل أنحلته العبادة، واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة. فلم يرتضِ المنصور مقالته، فردَّ عليه: يا محمّد، قد علمت أنّك تقول به وبإمامته، ولكن الملك عقيم، وقد آليت على نفسي أن لا أمسي عشيّتي هذه، أو أفرغ منه(10).

فما كان منه إلّا أن أمر عامله على المدينة محمّد بن سليمان، فدسّ إليه سمّاً قاتلاً، فلمّا تناوله الإمام، تقطّعت أمعاؤه، حتّى مضى شهيداً، ودُفن في بقيع الغرقد إلى جانب أبيه، وجدّه، وعمّه الإمام المجتبى عليهم السلام.

فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعث حيّاً.


1.تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج6، ص127.
2.إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئي دام ظله، ص282.
3.الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام، جعفر مرتضى، ص116.
4.النزاع والتخاصم، المقريزي، ص99.
5.مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص343.
6.الكليني، الكافي، ج1، ص185.
7.(م.ن)، ج4، ص466.
8.(م.ن)، ج1، ص538.
9.تحف العقول، الحرّاني، ص307.
10.يراجع: بحار الأنوار، المجلسي، ج47، ص187.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع