إن شهر رجب هو شهر جلاء القلوب وتطهير الروح، شهر التوسل
والخشوع والذكر والتوبة وصقل النفس وجلائها من المعاصي والذنوب والآثام.. وكل ما في
شهر رجب من الأدعية والاعتكاف والصلاة وسائل وسبل تساعدنا على جلاء قلوبنا وأنفسنا،
وتعيننا لكي ننأى بها عن المآثم والمعاصي، ولكي نعمل على تطهير أرواحنا. وهذه فرصة
كبيرة بالنسبة لنا، خصوصاً للذين يوفَّقون إلى الاعتكاف في هذه الأيام. وأما يوم
الثالث عشر من رجب فهو ذكرى الميلاد المبارك لأمير المؤمنين عليه السلام الذي يمثّل
هامة الكرامة الإنسانية، وأسوة الحلماء على مرّ التاريخ، وإمام الصالحين والمتقين
والمؤمنين والصادقين على مدى العصور.
* من التعاليم الربَّانية
ولكي نستلهم الدروس من هذا اليوم وهو ما نحن بأمسّ الحاجة إليه حالياً أتعرض هنا
باختصار إلى درسٍ من دروس هذا الإمام العظيم، ألا وهو درس التقوى. إنّ التقوى هي
الدرس الخالد الذي كان يردده دائماً أمير المؤمنين عليه السلام، فلو راجعتم نهج
البلاغة ستدركون أنّه عليه السلام لم يَدْعُ إلى شيء بمقدار ما دعا إلى التقوى. إنّ
التقوى في الواقع هي من أهمّ المحطات البارزة في حياة أمير المؤمنين عليه السلام
العملية، وفي تعاليمه الربانيّة. والتقوى تعني مراقبة النفس. فعلى العبد أن يراقب
نفسه دائماً، أعماله وسلوكياته، أن يراقب عينه ولسانه وسمعه ويده، كما يراقب قلبه،
وينتبه إلى عدم تغلغل الخصال الحيوانية إلى نفسه، وعدم الميل إلى الهوى أو الانجذاب
إلى المظاهر التي تؤدي به إلى الهاوية، فلا يضمر الحسد ولا يتمنى الشرّ لغيره، كما
لا يسمح للوساوس بالتطرّق إلى فؤاده، وعليه أن يهتم لأن يكون قلبه مسرحاً للفضائل
ولذكر الله ولحبّ أوليائه وعباده، وأن يراعي التقوى في الفكر والعقل، بأن يصون
العقل من الانحراف والوقوع في الأخطاء والمزالق. وعليه فإنَّ المراقبة المستمرة
للجوارح والقلب والفكر والعقل، من التقوى.
* طريق النجاة
إنَّ الكثير من الأعمال التي نرتكبها والمزالق التي نقع فيها تنشأ من عدم المراقبة،
والكثير من المعاصي تصدر عنّا لا بقصدٍ سابق، وإنما نغفل عن أنفسنا فنقع في الغيبة
والتهمة وبثّ الشائعات والكذب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى أيدينا وأعيننا. إذاً،
الغفلة هي التي توقعنا في البلاء. فلو أننا راقبنا أعيننا وألسنتنا وأيدينا
وأحكامنا وكتاباتنا وكلامنا، فسنكون بمنأى عن كثيرٍ من الأخطاء والذنوب الكبيرة
والصغيرة. ولو أننا راقبنا أفئدتنا، لَما ترسّخ الحسد وإرادة الشر وسوء الظن والحقد
والبخل والمخاوف الواهية والطمع بالأمور الدنيوية، والتعرّض لأعراض الآخرين
وممتلكاتهم.
إنّ هذه المراقبة تعتبر طريق العبد إلى النجاة، وإن العبد ليحصل على
حسن العاقبة من خلال هذه المراقبة
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
(الأعراف: 128). ولو توفرت هذه المراقبة لدى العبد، فَسَتَقِلّ نسبة احتمال
وقوعه في المعصية، كما تثبت العدالة للعبد من خلالها وتنشأ استقامة الإنسان والأمة
والمطالبة بالحق واتّباعه من هذه المراقبة. فإنَّ المراقبة والتقوى هما أُمّ كلّ
الفضائل. فعندما نراقب تشرع أفكارنا بالعمل، وتُصان قلوبنا من الخطأ، ولا تقع
جوارحنا وأعضاؤنا في الخطأ أو الزلل. إنَّ الدنيا والآخرة تحت ظلّ التقوى. هذا هو
درس أمير المؤمنين عليه السلام، ونحن في أمسّ الحاجة إليه، اليوم ودائماً.
* شدائد الأمة ترتفع بالتقوى
لو كانت الصفة العامة في الأمّة الإسلامية هي التقوى لأمكنها التحرك في الأزمات،
ولتغلّبت على المشاكل ولم تتغلّب المشاكل عليها. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "من
أخذ بالتقوى عزبت عنه الشّدائدُ بعد دُنُوِّها" (1). فلو أنَّ فرداً وأقول: ولو أنَّ
شعباً اتَّخذ من التقوى طريقاً له واتقى فسوف تبتعد عنه المشاكل حتى لو كانت قريبة
منه، "وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها وأسهلت له الصعاب بعد تعقيدها" (2)، وهذه هي
الحقيقة. إنَّ الشعوب المسلمة ليس لديها حالياً ما تقوله تجاه القوى العالمية، فلا
تمتلك علماً كافياً ولا إبداعاً أو تقدماً، ولا مهارةً في المجالات السياسية
المختلفة، فلماذا نحن متخلِّفون؟ لأننا تركنا التقوى، وهذه هي الشدائد التي تُرتفع
من خلال التقوى. أضف إلى ذلك أنَّ الصمود والثبات ناتج عن التقوى أيضاً.
* كرّار غير فرّار
إنَّ من ألقاب أمير المؤمنين عليه السلام أنه "كرّار غير فرّار". وقد لقبه النّبيّ
الأكرم صلى الله عليه وآله بذلك. وهذا لا يختص بساحة الحرب، فقد كان أمير المؤمنين
عليه السلام كرّاراً غير فرّار في جميع الميادين الإنسانية، فكان مقداماً ومقتدراً
ومفكراً لا يعرف التراجع. إنَّ المواقف الصلبة والثبات على المبادئ الصحيحة التي
يلزم الاعتقاد بها، والوقوف بوجه الانحرافات والمعاصي والمساوئ والمظالم وانعدام
العدل يُمثّل ما اتصف به أمير المؤمنين عليه السلام من كونه كرّاراً غير فرّار. ولو
أنكم تدرسون سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ستجدون أنَّ هذه الصفة ملازمة له طوال
حياته. وهنا يكمن علاجنا؛ فإن كنت تريد أن تبقى حياً وعزيزاً ومتقدماً من الناحية
العلمية والعملية، وإن كنتم تريدون أن يكون شبابكم مرفوعي الرأس، وإذا أردتم أن
يكون غَدُكم مشرقاً، فلا بدّ أن تكونوا مستقيمين ناشطين وأن تكونوا كرارين، لا
تعرفون التّعب، وتواصلون السير إلى أهدافكم، وسيكون مستقبل هذه الأمة بعد ذلك مشرقاً.
فيا أبنائي الأعزاء! ادخلوا ميادين العلم والعمل والسياسة وخدمة النّاس، وغيرها من
ميادين الخير، وزيّنوا أنفسكم بالصلاح والتقوى وامضوا قُدماً. اللهم اروِ قلوبنا
بسحاب رحمتك وفضلك.. اللهم خلّصنا من ظلمات أفكارنا وشرور أنفسنا.. اللهم اجعلنا من
المؤمنين الأتقياء حقيقة..
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 2، خطبة 198، ص 174.
(2) م.ن.