مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الطيبات زكاة الأرواح والأبدان

الشيخ أحمد إسماعيل



من يتوغَّل في معرفة الكثير من المفاهيم الدينيَّة، يدرك كم لها من الآثار والنتائج المبهرة بحق. ومن يتفحّص في عمق مضامين شريعتنا الإسلاميّة الغرّاء، يدرك عظمة هذا الدّين الّذي يريد للإنسان سعادة الدارين. بهذه الكلمات ندخل إلى عنوانٍ مهمٍ نجد لزاماً علينا بحثه وطرق أبوابه واستخراج ما خفي على أكثر الناس، لنسلّط الضوء على آثار الأطعمة من النواحي النفسية والسلوكية، ودور الأطعمة الطاهرة على النفس.

فالإسلام ركّز على الإنسان وعلى أهميّة دوره، فهو خليفة الله في أرضه، والإسلام يريد للإنسان أن يكون كاملاً متكاملاً في الدنيا عبر التزام المنهاج الإلهيّ، وهو طبعاً لمصلحة الإنسان. والله يريد له أن يكون ذا إرادة صلبة وصاحب عزم لا يلين أمام أي امتحان، ولا يضعف أمام أيِّ إغراء. وإنّ من جملة الإغراءات التي تضعف من عزمه وتفتّ من عضده، إغراء وشهوة الطعام والشراب، أو لنقل "شهوة البطن"، ويا لها من شهوة حين تتحكَّم بصاحبها فترديه في أودية سحيقة.

يقول المرحوم المولى محسن الكاشاني في كتاب المحجّة البيضاء: "أمَّا بعد فأعظم المهلكات شهوة البطن، فبها أُخرج آدم عليه السلام وحوّاء من دار القرار إلى دار الذِّل والافتقار. إذ نُهيا عن أكل الشجرة فضلّتهما شهواتهما حتَّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدَّة الشبق إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة المطعم والمنكح شدة الرغبة في المال والجاه اللذين هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات. وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلّل العبد نفسه بالجوع وضيّق مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله ولم يسلك سبيل البطر والطغيان ولم ينجرّ به ذلك إلى الانهماك في الدنيا"(1).

* آثار الأطعمة الزائدة
من جملة الآثار السيئة التي تتجاوز الحدود، أن يتحوّل صاحبها إلى إنسان طمّاع شرِه، لا همّ له إلا بطنه الجهنمي. عن الرسول صلى الله عليه وآله: "ما ملأ ابن آدم وعاءُ شَرَّاً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه، فإن كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه"(2). وفي الرواية أنَّ أحد من حضر مجلس النبي تجشأ، فقال له صلى الله عليه وآله: "أقصر من جشائك فإنّ أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا"(3). وعن الرسول صلى الله عليه وآله: "المؤمن يأكل في معيّ واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء"(4). هذا ليس معناه أنَّ المنافق له أمعاء سبعة، بل هو تعبير معنوي كنائي، لأنَّ الشهوة الزائدة تتطلبَّ المزيد من الطعام والشراب دون مراعاة الحاجة والضرورة، وتجعل صاحبها مستسلماً لتلك الشهوة القاتلة والمدمِّرة. عن الإمام الباقر عليه السلام: "إذا شبع البطن طغى"(5)، وقال لقمان الحكيم لابنه: "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة"(6). وكان أحد الحكماء يقسم بالله تعالى أن الله عزّ وجلّ ما صافى عبداً إلاّ بالجوع، ولا والاهم إلا بالجوع، ولا مشوا على الماء إلا بالجوع، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع.

* أثر الأطعمة نفسياً وسلوكياً
إنَّ الطعام الحلال له أثره الطيّب، كما أن نوعيَّة الطعام لها أثرها الخاص في النفوس، وشتان ما بين من يعيش ليأكل ويتمتع بأصناف الطعام دون مراعاة الضوابط في اختياراته، وبين من يأكل ليعيش! عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله: "شرار أمَّتي الذين غذّوا بالنعيم ونبت عليها أجسامهم وإنَّما همّتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدّقون في الكلام"(7). فمن يعش همّ ألوان الطعام واختيار ما لذّ منه وما طاب، ليس معناه أنَّه يرتكب المنكر، ذلك أنَّ الإشكاليَّة التي نتحدّث عنها هي في المنحى والانعطافة نحو شهوة البطن، وكأنَّ الطعام هو الغاية التي من أجلها خُلقنا.

إنَّ الذي نؤكِّد عليه هو التزام التوازن في عملية الطعام فلا نأكل كما الإبل ولا نحرم أنفسنا وكأنَّ الطعام محرّم. فعلى سبيل المثال لا الحصر إنَّ أكل العدس يُرقِّق القلب، كما أنَّ المواظبة الدائمة على تناول اللحوم يُقسِّيه، وأنَّ التخفيف من الطعام يساعد صاحبه على الفكر والحكمة، كما أنَّ الطغيان والإكثار منه يُثقل حركة القلب والبدن، فقد قيل: إن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر. ع

ن أمير المؤمنين عليه السلام: "من ترك اللحم أربعين يوماً ساءَ خُلُقُه، ومن داومَ عليه أربعين يوماً قسا قلبُه"(8). وقد أعلن تقرير حديث لمؤسسة الصحة الذهنية (ميند) أنَّ ما يقرب من تسعة من بين عشرة أشخاص يعانون من متاعب ذهنية، ويرون أن هناك صلة بين الصحة النفسية والصحة البدنية، وأنَّ الطعام ونوعيته يلعب دوراً كبيراً في هذه العلاقة. يقول (توم برنز) من مدرسة كولومبيا للصحافة: "إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية". وقد قرأت في إحدى التقارير التي تصدر عن أطباء مختصين قولهم: إنَّ الصيام يقوم مقام مبضع الجرّاح الذي يزيل الخلايا التالفة والضعيفة من الجسم. وهو خير فرصة لخفض نسبة السُّكّر في الدم إلى أدنى معدلاتها، فهو يعطي فرصة للراحة، فالبنكرياس يفرز الأنسولين الذي يحوّل السكر إلى موادّ نشوية وذهنية تخزَّن في الأنسجة، فإذا زاد الطعام عن المعدّل فإنَّ البنكرياس يُصاب بالإرهاق ويعجز عن القيام بمهامه.

ويطرح العلماء معادلة من وحي ما ذهبنا إليه فيقولون: إنَّ ما نأكله ونشربه يؤثِّر على الذهن والنفس والبدن، فأجسامنا لا تعمل بمعزلٍ عمّا حولها من الموجودات كالهواء والماء والطعام. وهنا نتذكَّر كلاماً رائعاً مروياً عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله قال فيه: "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، وإن القلوب كالزرع يموت إذا كَثُر عليه الماء"(9). ولا يخفى على اللبيب أنَّ الأشخاص في حالاتهم النفسية والمزاجية بعد تناولهم الأطعمة ليسوا سواء، وأنَّ بعض المأكولات كالحلوى والسكريات يمكن أن تُشعر من يتناولها بالسرور في البداية، لكنها في بعض حالاتها تتحوَّل بصاحبها إلى صاحب مزاج سيئ، فاللحوم مثلاً قد تكون مفيدة لشخص، لكنها لدى آخر مُضرّة، وهناك من يتحمّل المزيد من العسل، وهناك من يضرّه، وهكذا هو الأمر بالنسبة لمادة الكافيين الموجودة في الشاي والقهوة والشوكولا.

* طهارة الطعام

إنَّ لقمة الحرام تحرم صاحبها الاستئناس بذكر الله لأنها تقسي القلب، ومن يقسُ قلبه هو بعيد عن الله، قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَة (الحاقة: 24) أي كلوا واشربوا في جنان الله الخالدة فهنيئاً لكم بما أسلفتم بترككم للشهوات، لا بالتكالب عليها، وقال تعالى متحدِّثاً بلسان أهل الكهف: ﴿فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ (الكهف: 19). إن الطعام الزكي الطاهر هو عنصر مساعد على زكاة البدن وتزكية النفوس، والطعام الذي يتناوله الإنسان بذكر الله وبسملته وتحميده له الآثار الإيجابية على النفس، كما أن تناول الطعام المحرّم كلحم الخنزير وشرب الخمور والمسكرات يجعل صاحبه كعروس للشيطان وألعوبة بيد إبليس، يتحكم به كيف يشاء، ويأخذه إلى عالمه المملوء بالشرِّ والطغيان، أعاذنا الله من ذلك.


(1) المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص145.
(2) الترغيب والترهيب، ج3، ص136.
(3) مجمع الزوائد، ج5، ص31.
(4) الخصال، الصدوق، ج5، ص7.
(5) الكافي، ج6، ص270.
(6) المحجّة البيضاء، ج5، ص151.
(7) ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1422.
(8) جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ج 2، ص 12.
(9) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 457.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع