لم تكن ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله مجرّد حدث
تاريخيّ، بل كانت حدثاً مصيرياً في مسير الإنسانية. الظواهر التي وقعت تزامناً مع
هذه الولادة الكبرى كما يروي التاريخ ما هي إلاّ إشارات بليغة لمعنى هذه الولادة
وحقيقتها. حيث ينقل أنّ علامات الكفر والشرك في نقاط شتّى من العالم تزلزلت واختلّت
أثناء ولادة نبيّا لإسلام الكريم صلى الله عليه وآله.
* مقدمة للكفاح ضد الظلم والطغيان
كما تعرّض قصر جبابرة الإمبراطورية الإيرانية المشركين آنذاك لحادث معروف حيث
انهارت قمم قصر المدائن الأربع عشرة. وكانت هذه بدورها إشارة رمزية أخرى تفيد أنّ
هذه الولادة مقدمة وخلفية للكفاح ضد الطغيان والطواغيت في العالم. ذلك عن جانب
المعنوية وهداية البشر القلبية والفكرية، وهذا عن جانب الهداية الاجتماعية والعملية
للبشرية.. الكفاح ضدّ الظلم والطغيان وضدّ سيادة الظالمين الباطلة على الناس..
للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام في نهج البلاغة العديد
من العبارات في وصف الزمن الذي ظهر فيه الرسول الأكرم وطلع كالشمس المشرقة، ومن ذلك
قوله: "والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور"(1).. ظلمات الجهل.. ظلمات الطغيان..
ظلمات الضّلال. "وكان بعده هدى من الضّلال ونوراً من العمى"(2). لقد كانت البشرية
عمياء فتفتّحت عيونها، وكان العالم مظلماً فتنوَّر بنور وجود الرسول. هذا هو معنى
هذه الولادة الكبرى ومن ثمَّ بعثة هذا الإنسان العظيم. لسنا نحن المسلمين فقط
مدينين للمنّة والنعمة الإلهية بسبب هذا الوجود المقدّس، بل الإنسانية كلّها مدينة
لهذه النعمة.
* مسيرة الإنسانية نحو القيم
إذا نظرنا في التاريخ بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وولادته سنلاحظ أنّ
الإنسانية سارت نحو القِيَم، وعرفت القِيَم، وهذا ما سينمو وينتشر تدريجياً وتتضاعف
شدته يوماً بعد يوم، إلى أن
﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(التوبة:33)
إن شاء الله.. يستغرق العالم كلّه وتبدأ البشرية سيرها الحقيقي في طريق الهداية
والصراط الإلهي المستقيم، والواقع أنَّ حياة الإنسانيّة تبدأ منذ ذلك اليوم.. اليوم
الذي تكتمل فيه حجة الله على الناس وتضع الإنسانيّة أقدامها على هذا الطريق.
* العالم الإسلامي بحاجة إلى الوحدة
ما أشدّد عليه اليوم وهو من واجباتنا الكبرى والأولى نحن المسلمين هو قضية
الاتَّحاد والوحدة. لقد سمّينا هذا الأسبوع الذي ينتهي بالسابع عشر من ربيع الأوّل
بأسبوع الوحدة منذ بداية الثورة. والسبب هو أنّ يوم الثاني عشر من ربيع الأول حسب
الرواية الشهيرة لدى إخواننا السّنة هو يوم ولادة الرسول، ويوم السابع عشر من ربيع
الأول حسب رواية الشيعة المشهورة هو يوم ولادته. بيد أنّ الكلام لا يكفي. والتسمية
لا تكفي. ينبغي أنْ نعمل ونتّجه صوب الوحدة. العالم الإسلامي اليوم بحاجة للوحدة.
وهناك عوامل تفرقة ينبغي التغلّب والانتصار عليها. كلّ الأهداف الكبرى بحاجة للجهاد
والكفاح. وبمقدور هذا الجهاد حلَّ الكثير من العقد والمشكلات.
* عوامل تقف في طريق الوحدة
هناك عاملان أساسيّان يعيقان طريق الوحدة وينبغي علاجهما.
- العامل الداخلي:
إنَّ تعصّب والتزام كل فريق لنفسه بطريقة تتجاوز حدود الإثبات إلى حدود الإقصاء
المصحوبة بالتطاول والعداء هو ما يجب التغلّب عليه. فعلى الإخوة في منظومة الأمة
الإسلامية أن يحترم بعضهم بعضاً كما عليهم احترام حدود وحقوق وأفكار بعضهم الآخر،
وترك النقاشات والجدال لمجالس العلم. ليجتمع العلماء وأهل الخبرة ويتناقشوا مذهبياً
إذا شاءوا. إلا أنَّ النقاش المذهبي العلمي في الأروقة العلمية يختلف عن تبادل
الإساءات في العلن وعلى مستوى الرأي العام وأمام ذهنيَّات عاجزة عن التحليل العلمي.
على العلماء احتواء هذا الشيء، وعلى المسؤولين احتواءه أيضاً. هذا أحد العاملين وهو
عامل داخليّ.
- العامل الخارجي:
وهناك العامل الخارجي وهو يدُ الأعداء المغرضة العاملة على التفرقة. ينبغي عدم
الغفلة عن هذا. ليس اليوم فقط، بل منذ أن شعرت القوى السياسية المهيمنة على العالم
بأنّ بوسعها التأثير على الشعوب ظهرت يد التفرقة هذه وهي اليوم أشد من أي وقت آخر.
ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة تساعد بدورها على ذلك. إنَّهم يؤجِّجون النيران
وينحتون الشعارات للتفرقة. ينبغي التيّقظ والحذر. وللأسف يصبح بعض الناس داخل
الشعوب والبلدان المسلمة وسائل لتنفيذ أغراض أولئك الأعداء الأصليين.
* اعتصموا بحبل الله
على الأمة الإسلامية أن تبقى متيقّظة وتقف بوجههم. والواجب الأوّل يقع على عاتق
رجال السياسة. على مسؤولي وساسة البلدان الإسلامية أن يتيقَّظوا. المفكرون ومن
يتعاملون مع عقول الناس وقلوبهم؛ علماء الدين، والمثقفون، والكتَّاب، والصحفيون،
والشعراء، والأدباء في العالم الإسلامي يتحملون هذا الواجب الكبير بدرجة عالية وهو
أن يعرِّفوا للناس الأصابع التي تروم الإخلال بهذه الوحدة وإخراج هذا الزمام الإلهي
المتين من أيدي المسلمين. يقول لنا القرآن بصراحة:
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ
جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾(آل
عمران: 103).. يقول لنا اعتصموا سويةً بحبل الله. هذه هي قضية العالم
الإسلامي الكبرى. نأمل أن يوفّق الله تعالى جميع أبناء الأمَّة الإسلامية وكافة
الشعوب والحكومات الإسلامية للنظر لهذه المسألة المهمة بوزنها وأهميتها، وتطبيقها
عملياً. ورضوان الله ورحمته على روح إمامنا الجليل الذي رفع هتاف الوحدة في عصرنا
ودعا المسلمين لهذا الاتِّحاد. نرجو أن يعرِّف الله قلوبنا النداء الإلهي والدعوة
الإلهية أكثر فأكثر، ويجعل مستقبل الأمة الإسلامية خيراً من ماضيها. والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
1- نهج البلاغة، الخطبة 89.
2- مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.