حوار: هيئة التحرير
التفكر، التقوى، الذكر حالات عبادية راقية لا تتحصّل إلا
مع تحقق اليقظة عند الإنسان، فالتوجّه للباري تعالى لا بد وأن يكون مصحوباً بوعي
وانتباه كاملين حتى تتحقق العبودية في أبهى صورها وحتى تتحقق الخلافة الإلهية
للإنسان على الأرض ولكن هل المقصود من اليقظة التي يُقابلها النوم أم هي اليقظة
الروحية؟ ما هي حقيقتها؟ هل يعيش الإنسان دائماً صاحياً يقظاً؟ وما الفرق بين يقظة
الباطن ويقظة الظاهر؟ هذا ما سيجيبنا عليه فضيلة الشيخ حسين كوراني فيما يلي:
*ما هو تعريف اليقظة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
"أللهم لا تجعل حديثي عن اليقظة حديث غافل لمتيقظين، ولا حديث غافل لغافلين. أللهم
نبهني من نومة الغافلين".
* اليقظة في عالم النفس والمعنى هي: الخروج من الغفلة.
إنها تيقّظ الروح وتعاملها مع الحقائق كما هي ودون حجب. وتتضح يقظة الروح، وغفلة
الروح، بالتأمل في نومنا المتعارف واستيقاظنا من هذا النوم. نومنا المتعارف هو نوم
الظاهر، وهو غير نوم الباطن. وكل منهما يستتبع غفلة. فغفلة الباطن غير غفلة الظاهر.
وبالتالي: يقظة الباطن غير يقظة الظاهر. قد يستيقظ أحدنا من نومه، ويروح ويجيء، أو
يخطّط وينفذ، إلا أنه نائم، بل ربما كان يغطّ في نوم عميق! وهو غفلة الروح. وهذا
بعض معنى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"(1).
وبعضه الآخر: أن نوم الناس يستمر إلى الموت، فالنسبة بين عالم الآخرة وعالم الدنيا
هي نسبة المتيقظ إلى النائم.
* مراتب اليقظة:
*اليقظة إذاً مراتب؟
كما أن الاستيقاظ من النوم المتعارف والعادي مراتب، فإن اليقظة الروحية والمعنوية
مراتب. يستيقظ النائم من نومه وربما عاد إلى النوم مباشرة، وربما لا يعود إلى النوم،
وفي هذه الحال، قد يكون الغالب عليه النعاس أو الكسل أو التعب، وقد يكون في وضع
اعتيادي بين الكسل والنشاط، وقد يكون نشيطاً أو يكون في غاية النشاط. هذه كلها
مراتب لليقظة العادية هي أحوالنا عند التيقظ من النوم. كذلك هي حالات يقظة الروح
والمعنى ومراتبها. قد تكون اليقظة الروحية قصيرة جداً، نرجع بعدها إلى النوم، وقد
لا نرجع، وتكون لنا حالات نفهمها مما تقدم. إما أن يكون الغالب علينا النعاس أو
الكسل أو التعب، أو حال مابين الكسل والنشاط، أو النشاط وهو كما تقدم على مراتب.
هنيئاً لأصحاب النعيم نعيمهم.
* ما هو المفهوم الذي يقابل اليقظة؟ هل هو النوم؟
النوم سبب للغفلة التي هي المفهوم المقابل لليقظة، ولذلك يبدو في الحديث عن اليقظة
أن ما يقابلها هو النوم باعتباره مسبباً لمقابلها الحقيقي الذي هو الغفلة.
* متيّقظ أم نائم:
* ما هي الفائدة العملية التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن من الحديث عن اليقظة؟
أن يفكر كل شخص منا بمسؤولية بين يدي الله تعالى ويجيب على السؤال التالي:
هل أنا متيقّظ أم نائم؟
إن كنت متيقظاً، ففي أي مراتب اليقظة أنا؟ وإن كنت نائماً، ففي أي مراتب النوم؟
أما آن لهذا النائم أن يستيقظ؟ أما آن لهذا القلب أن يلجأ إلى الله تعالى بصدق
التضرع قائلاً: " أللهم نبهني من نومة الغافلين".
كيف يمكننا أن نعرف الحال الذي نحن عليه، يقظة أم نوم؟
يمكننا ذلك بأمرين:
* الأول: أن نتأمل في اليقظة والغفلة ومراتبهما.
* الثاني: أن نعرف من هم "الغافلون" حتى لا نكون منهم.
*ما هو المراد من التأمل في مراتب اليقظة والغفلة؟
لا بد من التنبه إلى ما يلي: اليقظة - كما مر - تقابل الغفلة. والغفلة تدل
على يقظة كانت قبلها وهي الفطرة:
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا﴾
(الروم:30) فالتسلسل إذاً كما يلي: يقظة هي الفطرة، تعقبها غفلة ثم يتم
الخروج منها إلى اليقظة. ولكلٍّ من الغفلة واليقظة مراتب شتّى: وقد تقدم ما يشير
إلى مراتب اليقظة. وأما الغفلة، فقد تكون عابرة وقد تكون مقيمة. والغفلة المقيمة قد
تكون مستحكمة وغير مستحكمة. والغفلة المستحكمة كالنوم العميق، وغير المستحكمة
كالنوم الخفيف. ولا بأس بالوقوف هنا - ولو عابراً - عند "التنبه" الذي يمكن اعتباره
نقطة بداية اليقظة، كما يمكن اعتباره حالاً بين الغفلة واليقظة. والمراد بالتنبه هو
ما يشبه الحال التي ينتقل منها النائم إلى الاستيقاظ، أي أنه فاصل بين الغفلة
واليقظة: يشعر النائم بأن أحداً يناديه أو رنين منبّه ينبّهه، ويحاول استيعاب
مايحدث فيستيقظ أو يقرر الرجوع إلى النوم. كذلك الحال في الغفلة عن حقيقة الوجود أو
فقل غفلة الروح والمعنى. يسمع قلب أحدنا ما ينبّهه فربما استجاب فتنبّه، وربما عاد
إلى الغفلة.
*وما هو المراد من "معرفة الغافلين"؟
يكفينا أن نتتبّع بعض موارد الحديث عن الغفلة والغافلين في كتاب الله تعالى،
ليمكننا معرفة الحالة التي نحن عليها، أهي غفلة أم يقظة. قال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ
الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ﴾
(النحل 107)
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون﴾
(النحل 108) وقال سبحانه:
﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾
(الأعراف: 205). حيث توضح الآيتان من سورة النحل أن الغفلة "تعني ترجيح
الدنيا على الآخرة، واستحبابها عليها". وتوضح الآية من سورة الأعراف التقابل بين
الذكر والغفلة.
* غير الذاكر... غافل:
*هل يعني هذا أن الذّاكر متيقّظ، وغير الذّاكر غافل؟
نعم وهذه نقطة شديدة المحورية، بعيدة الغور والدلالة، تمسّ الحاجة إليها خصوصاً
لدينا نحن الحريصين على خط الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه، لندرك أن ألفباء
خطّ الإمام هو "الذكر" فهو علامة "اليقظة" والخروج من" الغفلة. من أراد منا أن يعرف
هل هو من أهل الغفلة أم من أهل اليقظة، فليتأمل هل هو من أهل الذكر. هل هو من
الذاكرين، فإن كان كذلك فليحمد الله تعالى وليطلب الثبات والمزيد، وإن لم يكن من
الذاكرين فهو ليس متيقظاً وهو من "الغافلين". عن أمير المؤمنين علي عليه
السلام: بدوام ذكر الله تنجاب الغفلة(2).
*ما هو المراد بالذّكر الذي هو العلامة الفارقة بين
الغفلة واليقظة؟
كما هو معروف. الذكر نوعان: قلبي ولساني، ولا سبيل إلى الذكر القلبي عادة إلا
باللساني. ويتسع معنى الذكر اللساني ليشمل "الصلاة" فهي ذكر خاص، وفي رواية عن
الإمام الباقر عليه السلام أن الصلاة هي الحد الفاصل بين الغافلين وبين الذاكرين.
قال عليه السلام: أيما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها، فليس هذا من
الغافلين(3). ومن الواضح أنّ المقصود بالمحافظة على الصلوات هو المحافظةُ على
الصلوات الخمس، لا الأربع كما يبتلى به من يمنعه السهر الدائم من صلاة الصبح، فيخرج
من دائرة
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ
يُحَافِظُونَ﴾
(المعارج:34). كما أن تأكيد الإمام الباقر عليه السلام على صلاتها لوقتها،
يدل على أن من لا يصلي الصلوات لوقتها هو من الغافلين.
* استمرار الذّكر استمرار اليقظة:
* هل نفهم ممّا تقدم، ومن الروايتين عن أمير المؤمنين والإمام الباقر عليهما السلام
أنّ المواظبة على الذّكر مطلوبة لتأمين استمرار اليقظة واجتناب الغفلة؟
نعم بالتأكيد. فالشخصية المؤمنة لا تنفصل عن الذّكر، سواء كان هذا الذّكر صلاة، أو
عبادة أخرى، أو دعاءً، أو مما اصطلح عليه بالأوراد أو بالأذكار من قبيل الاستغفار
والصلوات والتهليل والتسبيح. قال تعالى:
﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾
(النور:37).
* نجد في الحديث عن اليقظة، الحديث عن اليقظة في أوانها،
وبعد فوات الأوان. ما معنى ذلك؟
المراد بتعبير "بعد فوات الأوان" اليقظة بعد الموت،
﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾(ص:3)
عندها يكون قد فات الأوان حقيقة. أمّا في حال الحياة الاعتيادية، فإن المجال مفتوح
أمامنا لنتيقّظ، لكنّ الأوان الطبيعي لليقظة هو أول مرحلة الشباب، وكلما تخطّى
العمر هذه المرحلة أصبح التدارك أصعب، وقد تبلغ الصعوبة حدّاً يلامس التعذّر،
فيعبّر عن هذه اليقظة المتأخرة - تسامحاً، بأنها بعد فوات الأوان.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
* أوصيكم بذكر الموت، وإقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عما ليس يُغفلكم(4)؟
* الحذرَ، الحذر، أيها المستمع. والجدَّ الجد أيها الغافل، ولا ينبئْك مثلُ خبير.
ومن خطبة له عليه السلام: وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلاً فلم تشغلهم تجارة
ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع
الغافلين. ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه . فكأنما
قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنما اطلعوا غيوب أهل
البرزخ في طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عداتها. فكشفوا غطاء ذلك لأهل
الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون(5).
*كيف تحدث الإمام الخميني عن "اليقظة"؟
قال رضوان الله تعالى عليه، في كتاب "الأربعون حديثاً": منزل الإنسانية
الأول، هو اليقظة. وهي:
1- الاستيقاظ من نوم الغفلة.
2- والصحو من سكر الطبيعة.
3- وإدراك:
أ- أن الإنسان مسافر.
ب- وكل مسافر يحتاج إلى الزاد والراحلة.
ت- وزاد الإنسان وراحلته خصال الإنسان نفسه.
ث- ووسيلة النقل في هذا السفر الخَطِر والمرعِب ".." هو الهمة البطولية.
ونور هذا الطريق المظلم هو الإيمان والخصال الحميدة(6).
وقال عليه الرحمة في نفس الكتاب في الحديث العاشر:
إعلم أن المنزل الأول من منازل الإنسانية هو منزل اليقظة كما يقوله كبار أهل السلوك
في بيانهم لمنازل السالكين.
* ما هي أهم أسباب دوام الغفلة التي تمنع من اليقظة؟
تحدث الإمام الخميني رضوان الله عليه عن ذلك فقال:
"... يجب أن نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ - الذي يؤدّي إلى نسيان المقصد ونسيان
لزوم السير، وإلى إماتة العزم والإرادة - هو أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متسعاً
للبدء بالسير، وأنه إذا لم يبدأ بالتحرك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا
لم يكن البدء في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل. إن طول الأمل هذا وامتداد
الرجاء، وظنَّ طول البقاء، والأمل في الحياة والأماني وفسحة الوقت، يمنع الإنسان من
التفكير في المقصد الأساسي الذي هو الآخرة. ويحول بينه وبين لزوم السير نحو هذا
الهدف والمقصد، كما يمنعه من لزوم اختيار رفيق الطريق، وتهيئة الزاد للطريق، ويحمله
بالتالي على نسيان الآخرة وحذف الهدف من فكره.
وإذا ابتلي الإنسان بنسيان الهدف
المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر ".." فإن من الواضح أن لا يفكّر
بالزاد والراحلة، ولوازم السفر. وعندما يحين وقت السفر سيشعر بالتعاسة، ويتعثّر
ويسقط في أثناء الطريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل. وأختم بما أورده أحد شراح
كلمات أمير المؤمنين عليه السلام/ من علماء القرن السادس، في معرض بيانه معنى: "الناس
نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، حيث قال: "... المعنى أن جميع الناس نائمون نوم الغفلة
عن أمور الآخرة ما داموا في الحياة الفانية والقوى المتناهية، فإذا ماتوا وصاروا
أحياء بالحياة الباقية الدائمة تيقّظوا وزالت غفلتهم ثم وقعوا في الندم على ما
كانوا عليه من الأعمال الرّديّة والأخلاق الدنيّة مع علمهم بأنه لا ينفع، فالأحرى
والأجدر بكل مؤمن أن يتنبّه عن نومة الغفلة ويميت نفسه بقطع العوائق الدنيوية وخلع
العلائق النفسانية ليصل إلى مقام: "موتوا قبل أن تموتوا"، ويتخلص من الندم بعد
الموت ويحيا حياة طيبة دائمة في جوار الرحمن، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين،
واجعلنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(7).
(1) التحفة السنيّة، السيد عبد الله الجزائري، ص152.
(2) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 - ص2285.
(3) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 - ص 2286.
(4) ميزان الحكمة، ص3284، ج3.
(5) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج2، ص211.
(6) الأربعون حديثاً. الحديث الرابع. ترجمة الكاتب.(لم تكتمل. إلى الحديث السادس
فقط).
(7) شرح كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - عبد الوهاب - ص 6.