مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أخلاقنا: المُجاهد من جاهد نفسه



وردت في الكثير من الآيات القرآنية كلمتا الهجرة والجهاد معاً: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ (الأنفال: 74). فالهجرة والجهاد هما الركنان الأساسيّان اللذان يستند إليهما الإسلام من الناحية الاجتماعية. وقد حرص القرآن الكريم على إحاطتهما بقدسيّة خاصّة كلّما تحدّث عنهما، كما أنّه عظّم وقدّس درجة المهاجرين والمجاهدين أكبر تعظيم وتقديس. لقد ورد للهجرة وللجهاد تفسير آخر غير التفسير المعهود (الهجرة ترك الأهل والوطن، والجهاد مواجهة العدوّ)، فقد فُسّرت الهجرة بهجر المعاصي والذنوب والابتعاد عنها، والجهاد بجهاد النفس. ولو أخذنا بهذا التفسير لأصبح جميع التائبين في العالم مهاجرين؛ لأنّهم هجروا الذنوب والمعاصي ونأوا عنها، ولبات جميع التقاة والورعين مجاهدين.

* نموذج "الفضيل بن عيّاض"
كان الفضيل بن عيّاض سارقاً، لاهياً، ثمّ تغيرت حاله، فهجر جميع الذنوب وتاب إلى الله توبة نصوحاً، وأصبح بعدها من العلماء، فهو لم يتحوّل إلى رجل متّقٍ وحسب، بل أصبح أيضاً معلّماً ومربّياً للعديد من الناس، في حين كان في مطلع حياته لصّاً، وقاطع طريق، وشرساً مؤذياً، ضجّ الناس من شرّه وأذاه.
أمّا قصة توبته، فقد كان الفضيل يهمّ -كعادته- بسرقة بيت، وعندما تسلّق الجدار وهمَّ بالنزول إلى داخله، رأى رجلاً زاهداً عابداً يقوم الليل، يصلّي ويقرأ القرآن، بصوت خاشع حزين، وكان أوّل ما طرق سمعه من قراءته قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الحديد: 16). أحسّ وكأنّ الآية أُوحيت إليه هو، خاطبته، هزَّته بعنف، حتى قال: "اللَّهمَّ بلى، اللَّهمَّ بلى، قد آن الأوان"، فنزل عن الجدار، وهجر منذ ذلك الحين كلّ الذنوب، فلا سرقة بعدها، ولا خمر ولا ميسر ولا غيرها، ابتعد عنها بكلّ جهده، وأرجع الحقوق التي كان قد اغتصبها إلى أصحابها، وأدّى ما عليه من حقوق الله، وجبر ما كان قد فات منه. إذاً، كان الفضيل مهاجراً أيضاً؛ لأنّه هجر السيّئات وابتعد عنها.

* الجهاد: جهاد النفس
ورد في تفسيرات كلمة الجهاد أنّ المجاهد هو من يجاهد النفس الأمّارة بالسوء وأهواءها الداخلية. ومعروف أنّ الصراع الداخلي موجود باستمرار، قائم بين النفس وأهوائها من جهة والعقل من جهة أخرى.
يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه"(1). وورد أيضاً: "المجاهد من جاهد نفسه"(2).

* نموذج "بورياي ولي"
كان "بورياي ولي" من كبار أبطال المصارعة في العالم، وكان يعتبر نموذجاً للبطولة والرجولة والأخلاق في آن واحد. يُروى أنّ هذا البطل كان قد سافر إلى إحدى المدن للتنافس مع بطلها في المصارعة. وخلال تجواله في تلك المدينة، شاهد امرأة عجوزاً توزّع الحلوى على الناس، وتطلب منهم الدّعاء، فقدّمت له الحلوى وسألته الدّعاء، عندها سألها عن حاجتها، فقالت: "إنّ ابني هو بطل مدينتنا في المصارعة، وقد جاءنا منافس له من مدينة أخرى لمنازلته، وسيلتقيان خلال الأيام القليلة المقبلة، أخشى أن يخسر ولدي المباراة، فخسارته لا تعني انتكاسة شخصيّته فحسب، بل انقطاع مورد رزقنا الوحيد؛ الراتب الذي يُقدَّم لولدي في هذه الرياضة".
فاستغرق في التفكير مع نفسه محدثاً إيّاها عمّا سيفعله في المباراة: "هل أصرعه إذا كنت أقوى منه أم لا؟". هنا تذكّر هذا البطل حديث: إنّ "أشجع الناس من غلب هواه". وفي اليوم المقرّر للمباراة، صعد إلى الحلبة فوجد منافسه أضعف منه بكثير، ويستطيع أن يطرحه أرضاً بحركة واحدة، فراح يُكثر من الدوران ويطيل المصاولة والمجاولة مع منافسه، ثم مكّنه أخيراً منه لتبدو الأمور حقيقةً. في تلك اللحظة التي صُرع فيها، أحسَّ قلبه قد انفتح لله وكأنّه يرى بقلبه عالم الملكوت. هذا الرجل -لأنّه جاهد نفسه وانتصر عليها في تلك اللحظة- قد أصبح من أولياء الله، لماذا؟ لأنّ "المجاهد من جاهد نفسه"؛ ولأنّ "أشجع الناس من غلب هواه"، ولأنّه أظهر شجاعة فاق بها كلّ الأبطال.

* وإنْ كان عَمراً
وأعظم من هذه الحادثة، قصة الإمام عليّ عليه السلام مع "عمرو بن عبد ود". هذا البطل الذي كان يوصف بفارس "يليل"(3)، الفارس الذي يعدل ألفاً. في معركة الخندق كان عسكر المسلمين في جهة من الخندق وعسكر العدوّ في الجهة الثانية منه، بحيث لم يكن باستطاعة العدوّ أن يعبر إلى جهة المسلمين، ورغم ذلك فقد تمكّن نفر من الكفّار -ومن بينهم عمرو بن عبد ود- من عبور الخندق، وأخذ عمرو يجول بفرسه وهو يصرخ: هل من مبارز؟! فلم يجرؤ أحدٌ على الخروج له وهم يعرفون من هو، وماذا تعني مبارزته. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من له؟"، فسكت الجميع إلّا عليّاً، إذ نهض وقال: "أنا له يا نبيّ الله"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه عمرو، اجلس!". فنادى عمرو ثانية وثالثة، فلم يجبه أحدٌ، غير الإمام عليّ عليه السلام، إذ نهض وقال: "يا رسول الله أنا له"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه عمرو"، فقال عليه السلام: "وإن كان عَمراً"، فأذن له. والشاهد، أنَّ علياً عليه السلام طرح بطل قريش على الأرض وتمكّن منه، وقبل أن يقتله، بصق عمرو في وجهه عليه السلام، فقام الإمام من فوق صدره، وأخذ بالسير بهدوء بالقرب منه، وبعد فترة عاد وثبّته أرضاً وقتله، فسُئل الإمام عليه السلام عن سبب انصرافه عنه ثمّ عودته ثانية، فأجاب عليه السلام أنّه أراد أن تكون ضربته له لله، وخشي أن يحوّل غضبه من فعل الضربة لنفسه لا لله، فقام عنه حتَّى هدأ، وعاد فقتله لله تعالى لا لغيره(4).

* روح الشجاعة
إنّ مجاهدينا الأقوياء يرون في الإمام عليّ عليه السلام النموذج الأكمل للبطل؛ لأنّه كان بطلاً على كلا الجبهتين: جبهة الصراع مع أعداء الله في ميادين الحرب، وجبهة الصراع مع النفس الأمّارة بالسوء وأهوائها.
القوّة الحقيقية والبطولة المثلى لا يمكن أن تتحقّقا إلّا إذا تحرّر الإنسان من عبودية الهوى والشهوة، فالبطل والشجاع حقّاً من لا يتعرّض لأعراض الناس؛ لأنّ روح الشجاعة الحقّة تمنعه من ذلك، وهو لا يزني ولا يشرب الخمر؛ لأنّ روح الشجاعة والبطولة لا تسمح له بذلك. والبطل القويّ والشجاع، لا يكذب، فالشجاعة تأبى أن تكون حليف الكاذب، والشجاع لا يتملّق، فالملق ضدّ الشجاعة والقوّة.
ليس البطل الحقيقي ذلك الذي يقوى على رفع ثقل كبير أو صخرة ضخمة، بل الأهم أن يقوى على كبح هوى نفسه وينتصر عليها.


(1) للإمام عليّ عليه السلام حكمة بالغة توضح هذا المعنى إذ يقول عليه السلام: "ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشرّ مغلوب". نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، ص 533.
(2) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 11، ص 124.
(3) سبب تسميته بهذا الاسم هو أنّه كان مقبلاً في ركب من قريش حتى إذا وصلوا إلى وادي يليل -وهو واد قريب من بدر- تعرّضت لهم بنو بكر في عدد من الفرسان، فقال عمرو بن عبد ود لأصحابه: امضوا، فمضوا، وتصدّى وحده لبني بكر ومنعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك.
(4) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 16، ص 197 في تفسير سورة الأحزاب.
(5) بحار الأنوار، المجلسي، ج 41، ص 51. وفيها: "إنّه لما أدرك عمرو بن عبد ود، لم يضربه. فوقعوا في عليّ عليه السلام -ويقصد أنّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انتقدوا عليّاً بسبب تركه الإجهاز على عمرو- فردّ عنه حذيفة فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: مه يا حذيفة فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته. ثمّ إنّه ضربه -أي إنّ الإمام قتل عمرا- فلما عاد عليه السلام، سأله النبيّ عن ذلك -التأخير في قتل عمرو- فقال عليه السلام: "لقد كان -عمرو- شتم أمّي وتفل وجهي، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي -غضباً لها- فتركته حتى سكن ما بي، ثمّ قتلته في الله".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع