الشيخ محمّد يونس
لمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام، ليلة العاشر، حرص القوم على تعجيل القتال،
وقلّة انتفاعهم بمواعظ الفِعال والمقال، قال لأخيه العبّاس عليه السلام: "إنِ
استطعت أن تصرفهم عنّا في هذا اليوم، فافعل؛ لعلّنا نصلّي لربّنا في هذه الليلة،
فإنّه يعلم أنّي أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه"(1).
في الليلة الأخيرة من العالم الفاني، نسأل: لمَ آثر سيّد الشهداء عليه السلام
الصلاة لله وتلاوة كتابه على سائر الشؤون الأخرى، فيما سينال ظهيرة اليوم التالي
مكانة خاصّة؟ وكيف علّمنا الإمام الحسين عليه السلام بدمائه الزاكية تلك، حبّ
الصلاة؟
* الصلاة: أُنس النفس بالله
لمّا كانت الصلاة عمود الدين، وقربان كلّ تقيّ وبقبولها تُقبَل كلّ الأعمال، كان من
الطبيعيّ أن يكون لها حضورها الرائع وتجلّياتها البهيّة في واقعةٍ من أهمّ الوقائع
التي أظهرت الدين، وأحيت ما كان من تشريعاته، وشذَّبت ما لحق به من تشويه وتضليل.
وليس مبالغةً أن نقول إنّ كلّ صلاة أقامتها قافلة الحسين عليه السلام، سواء في
الطريق أو في المنازل التي نزل فيها الرّكب الحسينيّ أو أثناء وجودها في أرض الطفّ
أو يوم العاشر من المحرّم لها قراءتها الخاصّة ودلالتها المميَّزة وتجلّياتها
الإلهيّة، وبالتالي دورها الأساسيّ في ترسيخ ثقافة أداء هذه الفريضة التي تحوز موقع
القمّة بين بقيّة الفرائض.
* صلاته عليه السلام ليلة العاشر
في ليلة العاشر من المحرَّم، قدَّم الإمام الحسين عليه السلام الصلاة على أنّها
معشوقته في هذه الحياة، التي لا يقوى على مغادرة الدنيا دون وداعها. فعلاقته بها
ليست علاقة وجوب واستحباب، بل علاقة حبّ وعشق، فهي أنيسته وحبيبته، وكأنّه أراد أن
يقول للقوم الذين احتشدوا لقتله إنّ صلاتكم خالية من أيّ محتوى، ولو أنّكم أقمتم
علاقة حبّ وعشق مع الصلاة لما وصلتم إلى هذا التيه والضلال والعمى الذي تتخبّطون
فيه.
فالصلاة ليست حركات متنوّعة للجسد، بل هي أُنس النفس بالله ولذّة التعلّق بالخالق
والحضور بين يديه، وإذا كانت كذلك ستكون ملجأً عند المحن، وكهفاً عند الشدائد،
وعزاءً عند المصاب.
* السيّدة زينب عليها السلام والصلاة
لذلك نرى السيّدة زينب عليها السلام في أشدِّ لحظاتِ المأساة، وبعد استشهاد كلّ من
كان في القافلة من الأهل والأصحاب والإخوة والأبناء، جلست لتصلّي صلاة الليل، وقد
أعياها التعب، لمعرفتها أنّها بين يدي الله الجبّار، فهو الأنيس حيث لا أنيس، وهو
الملجأ حيث لا ملجأ، وهو العزاء عند العزاء.
* شهيد الصلاة
الصلاة في كربلاء عنوان كبير، سطّره الإمام الحسين عليه السلام بدمه لتبقى الصلاة
خالدةً أبد الدهر، لا سيّما تلك الصلاة التي صلّاها وقد وقف أمامه أحد أصحابه يَقيه
سهام الأعداء، حيث تقدّم الإمام الحسين عليه السلام لإقامة الصلاة، فصلّى بأصحابه
صلاة الظهر، وتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفي أمام الحسين عليه السلام، "فاستهدف لمن
يرمونه بالنبل كلّما أخذ الحسين عليه السلام يميناً وشمالاً، قام بين يديه، فما زال
يرمى به حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود، اللّهمّ أبلغ
نبيَّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك نصرة ذريّة
نبيّك، ثمّ مات رضوان الله عليه، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف
وطعن الرماح"(2).
"ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوفيت يا ابن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم؟ فجاء الإمام ووقف عند رأسه وقال: (نعم، أنت أمامي في الجنّة)، ثمّ فاضت
نفسه واستشهد (رضوان الله عليه)"(3).
إنّ هذا الصحابيّ الجليل لم يقاتل بين يدي الحسين عليه السلام ولم يشارك بسيف ولا
رمح، وإنّما قتلته سهام الأعداء وهو واقف لينهي الحسين عليه السلام صلاته، وقد
بشّره الحسين عليه السلام بالجنّة، فهو شهيد الصلاة، وليست أيّ صلاة، بل الصلاة
التي يصلّيها الإمام الحسين عليه السلام. ولأنّ الشهادة ليست مجرّد قتل وقتال،
وإنّما هي تجسيد للمفاهيم والفرائض الإلهيّة بين أسنَّة الرماح وضرب السيوف، فهل
هناك تضحية بعد هذه التضحية من ترسيخ للقيم والمفاهيم الإلهيّة؟
*جعلك الله من المُصلّين الذاكرين
عند التأمّل في دعاء الإمام الحسين عليه السلام لمن تقدَّم إليه ليخبره أنّه دخل
وقت الصلاة وهو يرغب في أدائها جماعة خلفه حتّى تكون تلك الصلاة آخر صلاة له، نجد
فيه إشارات ومعاني مهمّة. فما معنى أن يدعو له الحسين عليه السلام بأن يكون مصلّياً
وهو مصلٍّ بالفعل؟ وما معنى أن يدعو له بأن يكون ذاكراً وهو ذاكرٌ بالفعل، وقد قال
له: "ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين"(4)؟ ولكنّ الحقيقة أنّ هذه
الصلاة التي سأل الله أن يوفّقه لها هي الصلاة التي تُمثّل باب نجاة في هذه الدنيا،
الصلاة التي تزرع الأمن والطمأنينة في النفس، فتنعكس جلاءً للبصيرة ووعياً للعقول
واستقامةً في السلوك، وسلامةً في المواقف، وإلّا فإنّ الكثير من الأعداء كانوا
يُؤدّون الصلاة، ولكن ماذا نفعتهم صلاتهم عند الله وقد احتشدوا على إمام زمانهم
وسبط نبيّهم وخليفة الله، يريدون قتله، والاقتصاص منه، لا لشيء إلّا لخروجه على
فاسق فاجر شارب للخمر وقاتل للأبرياء؟!
* صلاة العشق والوصال
الصلاة في معسكر الحسين عليه السلام هي انقطاع إلى الله، بينما الصلاة فــي
مـعســـكر الأعداء هي انقطاع عن الله، وشتّان ما بين الصلاتين، فصلاة العشق
والوصال، لا يقيمها إلّا القليل، لذلك كان من الأعداء من يستهزئ بصلاة الحسيــن
عليه السلام، ويقول: إنّها لا تُقبَل منه. ولا عجب في قوله هذا، ما دامت الصلاة لم
تفعل فعلها في النفس، ولم تؤثّر أثرها الطاهر في القلب، ولم تمسح أدران الذنوب عن
صفحة النفس، لتصبح نقيّة صافية متلألئة.
* أوّل هداية الحرّ.. صلاته
بهذا المعنى نفهم تحوّل الحرّ بن يزيد الرياحيّ من معسكر ابن سعد إلى معسكر الإمام
الحسين عليه السلام، فالحرّ صلّى خلف الإمام الحسين عليه السلام أثناء المسير إلى
كربلاء. وقد صلّى هذه الصلاة وعاش تفاصيلها وفهم دلالاتها وأدرك أنّ هناك فرقاً
كبيراً بين صلاة المعصوم وصلاة الطاغية. لذلك، وجدته في كربلاء يتحوّل تحوّلاً
كبيراً عندما أدرك أنّ الحرب على وشك الوقوع، معتبراً أنّ الحرب بين أهل الجنّة
وأهل النار، ولا شكّ في أنّ هذه الصلاة التي صلّاها خلف الحسين عليه السلام كان لها
بركاتها في استقامة نفسه وجلاء الموقف الإلهيّ وسط المحنة التي سيقع فيها أغلب
المسلمين آنذاك، فيتقدّم من الحسين عليه السلام ليتوب وليقاتل بين يديه وليسجّل
التاريخ أنّه أول شهيد في كربلاء بعد أن كان أوّل من آذى الحسين وجعجعَ به في
الطريق.
وفي الخلاصة، إنّ الصلاة سرّ من أسرار المعارف الإلهيّة وينبوع خير وعطاء
للإنسان، أفاض الله به على الإنسان بضع مرّات في اليوم، ليبقى متّصلاً بحبله المتين
ومستبصراً بالنور الإلهيّ يضيء قلبه وعقله.
1- يراجع: اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص54.
2- انظر: بحار الأنوار، المجلسيّ، ج45، ص21.
3- مقتل الحسين عليه السلام، أبو مخنف الأزديّ، ص149.
4- (م.ن)، ص142.