عندما نتحدَّث عن المجتمعات فنحن نتحدَّث عن وجود يملك روحاً، وإن كانت روحه
تختلف عن روح هذا الإنسان. ولذا صحَّ وصف المجتمعات البشريَّة بالحياة والموت،
وبسائر الأوصاف التي يوصف بها الإنسان.
وإذا كانت حركة الجسم في الإنسان يتحكَّم بها مركز الدماغ فيوجِّهها حيث يشاء طبقاً
لتقديره للحاجة وما تتطلّبه شؤون الحياة اليومية، فإنَّ حركة المجتمع تنقاد أيضاً
لمن يقود الناس كأفراد، وتبعاً لذلك يقود المجتمع كله إلى حيث يرى هذا القائد وجهة
السير الصحيحة. وهذا الذي يقود المجتمع هو الذي يُطلق عليه تسمية القدوة، لأنّه
المتأسَّى به من قِبَل الناس في القول والفعل، وهو الذي أطلق عليه القرآن تسمية
الإمام. والاستخدام القرآني للفظة الإمام جاء مشتركاً فاستعمل في أئمَّة الهدى كما
استعمل في أئمَّة الشرك والضلال. ففرعون كان إماماً للناس لأنَّه قادهم نحو الضلال
فأوردهم النار، وإبراهيم كان إماماً للناس ولكنّه إمام هدى قادهم إلى النجاة.
والقدوة كمفهوم، كما ينطبق على الأشخاص وهو الغالب في استعمال هذه المفردة، فإنَّه
ينطبق أيضاً على بعض المفاهيم والأفكار التي تصبح إماماً يتبنَّاها الناس فينقادون
نحوها. وكما أنَّ للقدوة عندما تتمثَّل بصورة إنسان وبشر خطرها فإنَّ القدوة التي
تتمثَّل بصورة فكرة أو مفهوم لا تقلّ خطراً. وأخطر ما في هذه المفاهيم التي هي
القدوة يرجع إلى أمرين:
الأول: إنَّ هذه المفاهيم تقود الإنسان
والمجتمع بشكل لا شعوريّ، فهي تنفذ إلى كيان المجتمع الإنسانيّ وتصبح جزءاً من
حقيقته، ولا تعود غريبة عنه بل تصبح هي الحاكمة عليه دون أن يَلحظ ذلك، فتبدأ مرحلة
التلقِّي لهذه المفاهيم والإنسان لا يشعر بها، ثمَّ تصبح هي الأصيلة دون التفات.
الثاني: إنَّ هذه المفاهيم تشكِّل وسيلة لأيِّ
غزو فكريّ أو ثقافيّ من قِبَل أيّ عدو يريد النيل من هذا المجتمع، فيستخدم هذا
العدو طرقاً وأساليب متعدِّدة ليجعل لهذه المفاهيم نفوذاً قوياً، يسيطر من خلاله
على المجتمع ويسيّره ولو بنحو خفيّ نحو الأغراض التي يريدها.
وينتصر هذا العدو عندما تتبدَّل هذه المفاهيم لتصبح مادّة احتجاج في لسان الناس،
ويتناسى الإنسان ثقافته الإسلاميَّة الأصيلة. وهكذا تتبدَّل القدوة لدى هذا الإنسان
تبعاً لتبدّل الثقافة التي يحملها، فالذي كان يَنظر إلى الأئمَّة والأولياء
والعلماء الصالحين نظرةً تحمل الإعجاب والإكبار والاحترام انطلاقاً ممَّا جسَّده
هؤلاء من تعاليم الدِّين الحنيف تتبدَّل نظرته فلا يجد فيهم مصداقاً للثقافة
الجديدة الوافدة إلى ذهنه والتي تمكنت من أن تسيطر على إحساسه وكيانه. عندما يشهد
الإنسان في المجتمع شعار (عيش حياتك) المتداول في جزئيَّات صغيرة في حياتنا،
يتلقَّنه الصغير والكبير على حد سواء لا يستشعر الخطر إطلاقاً، ولكنّه عندما يستشرف
المستقبل سوف يجد أنّ هذه الكلمة البسيطة سوف تستولد مفهوماً ذهنيّاً يرى فيه
الإنسان أنَّ ما يهم هو أن يعيش حياته، وما شأنه وشأن الآخرين وما علاقته بالآخرين
حتّى يهتم بأمرهم؟ والقرآن الكريم، وهو كتاب دعوة إلى الهدى كما بيَّن للإنسان طريق
الهدى، بيّن له أيضا أنَّه عندما يقتدي بإنسان ما فإنَّ عليه أن يستحضر سبب اقتدائه
به، أي إنّ سبب الاقتداء يجب أن يكون أمراً شعورياً داخلاً في وعي الإنسان، ولذا
عندما أمر القرآن الكريم بالاقتداء بأهل الهدى علَّل ذلك بأنَّهم نالوا الهدى
الإلهي فلذا استحقُّوا أن يكونوا القدوة:
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾
(الأنعام: 90).