إنَّ الأيام العشرة الأواخر من صفر هي أيام ما بعد
الأربعين. وإذا نظرنا إلی تاريخ صدر الإسلام فسنجد أنَّ هذه الأيام هي أيام السيدة
زينب الكبرى عليها السلام. فالمهمة التي نهضت بها زينب الكبرى عليها السلام كانت
مهمة إلهيّة، عملاً لوجه الله تعالی. وقد ظهر الكيان المعنوي والإلهي للدين في
الشخصية الحاسمة للسيدة زينب الكبرى عليها السلام وسط الأخطار والمحن والصعاب.
من
المناسب أن نعلم ونفهم كلمات التاريخ القديم القيّم جداً، والذي لا يزال يفيض إلی
اليوم بالبركات والخيرات الفكرية والمعرفية، وسيبقی كذلك إلی آخر الدنيا إن شاء
الله. تألَّقت السيدة زينب عليها السلام كوليٍّ إلهي في المسير إلی كربلاء مع
الإمام الحسين، وفي حادثة يوم عاشوراء وفي تحمّلها تلك الصعاب والمحن، وأيضاً في
أحداث ما بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام حيث قامت برعاية تلك
الجماعة المتبقِّية من الأطفال والنساء.. تألَّقت بشكل لا يمكن أن نجد له نظيراً
علی مرّ التاريخ. ثمَّ في الأحداث المتتابعة خلال فترة الأسر، في الكوفة والشام
وإلی هذه الأيّام، وهي أيّام نهاية هذه الأحداث وابتداء مرحلة جديدة للحركة
الإسلامية وتقدم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي. وبسبب هذا الجهاد الكبير اكتسبت
زينب الكبرى عليها السلام عند الله تعالی مقاماً لا يمكننا وصفه.
* مقارنة بين السيدة زينب وزوجة فرعون المؤمنة
إن الله تعالی يضرب في القرآن الكريم المثال عن امرأتين للنموذج الإيماني المتكامل،
ويضرب المثال للكفر أيضاً امرأتين.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ
عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾
(التحريم:10)، هذان هما المثالان علی الكفر وهما امرأتان كافرتان. أي إنَّه
لا يسوق المثال للكفر من الرجال بل يأتي به من النساء. وهذا ما نجده في باب الكفر
وفي باب الإيمان أيضاً.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾
(التحريم:11). أحد المثالين علی النموذج الإيماني الكامل هو امرأة فرعون
والمثال الآخر السيدة مريم الكبرى
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾
(التحريم:12).مقارنة مختصرة بين زينب الكبرى وبين زوجة فرعون يمكن أن تجلي
لنا عظمة مقام السيدة زينب الكبرى. عُرّفت زوجة فرعون في القرآن الكريم بوصفها
نموذج الإيمان للرجال والنساء علی مرّ الزمان وإلی آخر الدنيا. ثمَّ لكم أن تقارنوا
زوجة فرعون التي آمنت بموسی وتعلّقت بتلك الهداية التي جاء بها موسی، وحينما كانت
تحت ضغوط التعذيب الفرعوني والذي توَّفيت بسببه حسب ما تنقل التواريخ والروايات،
التعذيب الجسماني جعلها تصرخ:
﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾(التحريم:11)
طلبت من الله تعالی أن يبني لها عنده بيتاً في الجنة.. والواقع إنّها طلبت
الموت وأرادت أن تفارق الحياة.
﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾..
أنقذني من فرعون وأعماله المضلة. والحال أنَّ السيدة آسيا زوجة فرعون كانت مشكلتها
وعذابها ألماً جسمانياً ولم تكن كالسيِّدة زينب فقدت عدَّة إخوان وولدين وعدداً
كبيراً من الأقارب وأبناء الإخوان ساروا أمام عينيها إلی مقاتلهم. هذه الآلام
الروحيَّة التي تحمَّلتها زينب الكبرى لم تتعرَّض لها السيدة آسيا زوجة فرعون. رأت
السيدة زينب بعينيها يوم عاشوراء كل أحبتها يسيرون إلی المذبح ويستشهدون: الحسين بن
علي عليه السلام سيد الشهداء والعباس وعلياً الأكبر والقاسم وأبناءها هي نفسها
وباقي إخوانها رأتهم كلهم. وبعد استشهادهم شهدت كل تلك المحن: هجوم الأعداء وهتك
الحرمات ومسؤوليّة رعاية الأطفال والنساء.
فهل يمكن مقارنة عظمة وشدة هذه المصائب بالمصائب الجسمانيَّة؟ ولكن مقابل كلِّ
هذه المصائب لم تقل السيدة زينب لله تعالی: "ربّ نجّني"، بل قالت يوم عاشوراء: "ربنا
تقَّبل منا". رأت الجسد المقطّع لأخيها أمامها فتوجهت بقلبها إلی خالق العالم وقالت:
"اللهم تقبل منا هذا القربان". وحينما تُسأل: كيف رأيتِ؟ تقول: "ما رأيت إلا جميلاً"..
كل هذه المصائب جميلة في عين زينب الكبرى لأنَّها من الله وفي سبيل الله وفي سبيل
إعلاء كلمته.
لاحظوا هذا المقام المتقدِّم وهذا العشق للحق والحقيقة كم هو الفارق
بينه وبين ذلك المقام الذي يذكره القرآن الكريم للسيدة آسيا. هذا دليل علی عظمة
مقام السيدة زينب. هكذا هو العمل في سبيل الله. لذلك بقي اسم زينب وعملها إلی اليوم
نموذجاً خالداً في العالم. بقاء دين الإسلام وبقاء سبيل الله وبقاء السير في هذا
السبيل من قبل عباد الله يعتمد كله علی العمل الذي قام به الحسين بن علي عليه
السلام وما قامت به السيِّدة زينب الكبرى. أي إنَّ ذلك الصبر العظيم وذلك الصمود
وتحمّل كل تلك المصائب والمشكلات أدَّی إلی أنَّكم ترون اليوم القيم الدينيّة هي
القيم السائدة في العالم كافَّة. هذه القيم الإنسانية التي نجدها في المدارس
المختلفة والمتطابقة مع الضمير البشريِّ هي قيم نابعة من الدين. هذه هي خصوصيَّة
العمل لله. وقد كان العمل للثورة من هذا السنخ. لذلك خلدت الثورة واستمرت وأحرزت
ثباتاً واقتداراً معنوياً حقيقياً. كانت هذه الثورة ثورة لله.
يوم انطلقت هذه
الثورة وتشكَّلت هذه النهضة لم تكن علی غرار نهضات الأحزاب أو كأيِّ حركة سياسية
تقوم بها الأحزاب في العالم وتروم تولِّي السلطة. كانت حركة مظلومة ترنو إلی تطبيق
الأحكام الإلهيَّة وتحقيق مجتمع إسلامي وتكريس العدالة في المجتمع. الذين جاهدوا
حتَّى انتصار الثورة والذين صمدوا من أجل هذه الثورة وجاهدوا لكي يتحقَّق لها هذا
الثبات والاستقرار والاستمرار كانت نواياهم مخلصة. الشيء الذي يعجز أعداء الثورة
عن إدراكه هو هذه النقطة. الشيء الذي لا تستطيع أجهزة الاستكبار والصهيونيَّة فهمه
هو هذه المسألة. لا يستطيعون فهم أنَّ متانة هذا البناء هي بسبب أنَّه لله؛ ولأنَّه
شيّد علی أساس الإخلاص وتقدَّم بفضل الجهاد. لذلك استطاعت الثورة والنظام الإسلامي
الترسّخ في القلوب.
(1) مقتطف من خطاب للإمام الخامنئي ألقاه بتاريخ 8/2/2010.