﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * ا الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾ (الشعراء/75 ـ 85).
لقد فضّل الله سبحانه
وتعالى في كتابه المجيد حكاية النبي إبراهيم عليه السلام فذكر ثناءه الجليل على
ربّه وأظهر لنا أدب العبودية عنده في خطابه لله تعالى قبل أن ينطلق في دعائه وطلبه
إلى الله تبارك وتعالى.
فإذا أمعنّا النظر في هذا الخطاب النبوي لله تبارك وتعالى نلاحظ الثناء الجامع الذي
يذكر فيه أنعم الله تعالى عليه وعناية المولى به منذ خلقه وحتى يوم البعث، وبأسلوب
يظهر فيه عجزه وضعفه وحاجته إليه تعالى في كل مقام من مقاماته ومرحلة من مراحل
حياته.
وبالمقابل ذكر صفات الله
وآلاءه التي بها يصل إلى ما يطمح إليه فذكر لله الغنى والجود المحض.
فها هو يذكر مرافقة القدرة الإلهية والعناية الربّانية في تقلبه من حال إلى حال، من
خلق وإطعام وسقي وشفاء من مرض ثم إماتة وإحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم القيامة وهو
في كل ذلك ليس له إلا الطاعة المحضة والطمع في غفران الخطيئة.
وعندما عدّد النعم الإلهية
عليه فإنه ينسبها كلها إلى الباري جلّ وعلا فقال:
﴿االَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾لكنه
ينسب المرض إليه والشفاء إلى الله تعالى وذلك إمعاناً في إظهار الجميل وأنه لا يصدر
منه إلى الجميل وإن كان يصح نسبة حدوث المرض من الله العلي القدير.
بعد ذلك، بدأ بالدعاء وكآبائه آدم ونوح عليهما السلام ابتدأ باسم الرب
﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾
ولكن ما هو طلبه ورجاؤه من الربِّ المدبّر؟ وكيف طلب ودعا؟
لقد اقتصر في طلبه على النعم الحقيقية الباقية من غير التفات إلى زخارف الدنيا
الفانية!
طلب وسأل الحكم والشريعة
واللحوق بالصالحين ولسان صدق في الآخرين وهذا على ما فسره المفسرون أن يبعث الله
تعالى بعده زماناً بعد زمان وحيناً بعد حين من يقوم بدعوته ويروج شريعته وهو سؤال
أن يخصه بشريعة باقية، ثم سأل وراثة الجنة ومغفرة لأبيه وعدم الخزي يوم القيامة.
وقد أجاب الله نبيه وخليله إلى جميع ما سأله إلا دعاءه لأبيه إذ دعا له بناءً على
موعدة وعده إياه وصدق إبراهيم وعده لأبيه.
فأدب النبوة يتجلى عند
نبينا إبراهيم عليه السلام في هذه الآية:
أولاً: في طريقة عرض المحاججة بينه وبين قومه إذ رفض كل الأرباب إلا رب العالمين
فهم أعداؤه إلا رب العالمين حبيبه وإبراهيم خليله الله!
وثانياً: بعرض النعم الإلهية عليه وهي على الإنسان عامّة من خلقه وحتى ما بعد البعث
والحساب بأسلوب الثناء وإظهار الفقر والحاجة وبيان قدرة الربّ المدبّر الحكيم منذ
خلقه إلى ما بعد بعثه وحسابه وهو إذ لم يطلب المغفرة طلباً مباشراً بل قال:
﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾
فطلب المغفرة عنه طمع في كرم الكريم لا عن عمل أو جزاء. لذا سمى طلبه هذا طمعاً منه
لكي تمتد العناية الإلهية لتبقى سارية إلى يوم الدين يوم الحساب يوم الجزاء الأوفى.
وثالثاً: بدأ طلبه ودعاءه إلى المولى القدير بـ﴿رَبِّ﴾
وهي التي تدل على الربوبية المدبرة ثم قال
﴿هَبْ لِي﴾
فالهبة الإلهية على ما يظهر لا عن استحقاق العبد بل عن كرم ورحمة من الله، من هنا
نال إجابة الله له وحقّق أمانيه وآماله.
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ
مَالٌ وَلَا بَنُونَ * ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
(الشعراء/88 و89).