صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

أخلاقنا: توبة قبل فوات الأوان


آية الله الشيخ محمّد رضا مهدوي كنّي قدس سره


من نقاط البداية في العلاقة مع الله التوبةُ والاستغفار. فحينما يقع المرء في فخّ الذنب والمعصية بفعل الغفلة والجهل أو بعد تمرّد الغرائز الحيوانيّة والأهواء النفسانيّة، فلا بدّ له من عرض نفسه سريعاً على الرّحمة الإلهيّة، والتوبة بين يدي الخالق، وغسل القلب والنفس بماء التوبة والاستغفار؛ لأنّ التساهل في هذا الأمر، والتسويف والمماطلة في التوبة، معصية أخرى ودليل على مزيد من التمرّد.


* متى تُقبل التوبة؟
نستشفّ من القرآن الكريم أنّ التوبة تُقبَل بشرطين:
الأول: أن تكون المعصية قد وقعت بفعل الجهل لا بدافع الكفر والتمرّد. الثاني: شعور العاصي بالندم في أعقاب اقتراف المعصية وإسراعه نحو قرع باب التوبة.
قال الله تعالى في ذلك: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(النساء: 17-18).

أيّها الأخ المسلم وأيّتها الأخت المسلمة! هيّا للتوبة قبل فوات الأوان، لا سيّما وأنّ الفرصة قليلة والوقت لا يحتمل مزيداً من التأخير. لنصغِ إلى النبرة الرحيمة التي دعا الله تعالى فيها عباده إلى التوبة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (الحديد: 16).

* عاقبة عدم التوبة والإصرار على الخطيئة
أولئك الذين لا يشعرون بالندم ويماطلون في التوبة، بانتظارهم عاقبة سيّئة. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: ما من شيءٍ أفسَد للقلبِ من خطيئةٍ. إنّ القلبَ ليواقِعُ الخطيئةَ فما تزالُ بهِ حتى تغلِبَ عليه فتُصيِّرَ أعلاهُ أسفلَهُ"(1).

أي إنّ القلب الذي يتّجه بطبيعته نحو الله تعالى، يتغيَّر شكله ويأخذ طابعاً أرضيّاً، فلا تؤثر عليه كلمة الحقّ ولا تجد الموعظة أيّ صدىً لها فيه. وهذا هو عين ذلك الطريق الذي قال الله تعالى إنّه ينتهي إلى الكفر والتكذيب بآيات الله والاستهزاء بالحقائق السماويّة: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون (الروم: 10).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "يقولُ الله تعالى: إنَّ أدنى ما أصنَعُ بالعبدِ إذا آثرَ شهوتَهُ على طاعتي أن أَحرِمَهُ لذيذَ مُناجاتي"(2). وقال عليه السلام في حديث آخر: "إنَّ الرجلَ يُذنِب الذنبَ فيُحرَمُ صلاةَ الليلِ، وإنَّ العملَ السَّيِّئَ أسرعُ في صاحبِهِ من السّكِّينِ في اللّحمِ"(3).

فليقِ اللهُ الإنسانَ من الوصول إلى تلك المرحلة التي يُختَم فيها على قلبه وسمعه، وتُغشّى عينه بغشاء الظلام والضلال فيُصبح مصداق الآية الكريمة: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (البقرة: 7).

* الموت يأتي فجأة وبلا إذن
إذاً، وبعد اتّضاح أخطار المعاصي وأضرارها من خلال هذا الاستعراض السريع للآيات القرآنيّة والأحاديث، مِنَ الأجدر بالإنسان العاقل الإسراع لإزالة آثارها القبيحة من لوحة قلبه؛ لأنَّ التردّد في ذلك من أعمال السفهاء وغير العقلاء؛ إذ إنّ المعصيةَ سمٌّ زُعاف (قاتل) إن لم ينبرِ المرء للتخلّص منه على وجه السرعة، فلن يُبقي أمامه طريقاً للنجاة.

ألسنا نعلم أنَّ الموت يأتي فجأة وبلا إذن، ولا يسمح لنا حتّى بفرصة التقاط الأنفاس، أو كما يقول القرآن الكريم: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (يس: 50). وحينئذٍ يقولون: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنعام: 27)؟

ولكن ما فائدة ليت ولعلّ بعد فوات الأوان، وتعذّر تحقّق مثل هذا الطموح بعد وقوع الخذلان؟ حذارِ ثمّ حذارِ أن نقول يوماً: "وقد أفنيتُ بالتسويفِ والآمالِ عُمري"(4).

* جلاء القلوب... الاستغفار
إذاً، لا تنسوا الاستغفار! فالاستغفار جلاءٌ للقلوب. اذكروا الله مع الاستغفار في كلّ حين، في وقت الصلاة والتعقيبات، وفي غيرها من الأوقات، بل انطلقوا مع الاستغفار إلى فراش النوم؛ لأنّكم قد لا تستيقظون من النوم قط. ورد في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرّة، وقيل: إنّه كان يستغفر في كلّ جلوس خمساً وعشرين مرّة(5). فالاستغفار دواء الذنوب كما ورد في الحديث: "لكلِّ داءٍ دواءٌ، ودواءُ الذنوبِ الاستغفار"(6).

وعلينا أن نعلم أنّ أفضل أوقات الاستغفار والتوبة هي أوقات السحر، وهي الأوقات التي تُغلق فيها كلّ الأبواب وتغمض فيها كلّ العيون، إلّا أبواب الرحمة الإلهيّة، فإنّها مفتَّحة بوجه العباد ولا توصد في أيّ وقت؛ ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار (آل عمران: 17). ووصفهم تعالى في موضعٍ آخر: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الذاريات: 17-18). وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم: "ما مِن قطرةٍ أحَبُّ إلى الله من قطرَةِ دمعٍ خرجت مِن خشيَةِ الله ومِن قطرَةِ دمٍ سُفكت في سبيل الله، وما مِن عبدٍ بَكى من خشيةِ الله إلّا سقاهُ الله من رحيقِ رحمتِهِ، وأبدَلهُ الله ضِحكاً وسُروراً في الجنّةِ، ورحِمَ الله من حولَهُ ولو كانوا عشرينَ ألفاً، وما اغرورقَت عينٌ في خشيَةِ الله إلّا حرَّمَ الله جسدَهُ على النارِ، وإنْ أصابَ وجهَهُ لم يُرهِقهُ قترٌ ولا ذِلَّةٌ، ولو بكى عبدٌ في أُمّةٍ لنجّى الله تلك الأُمَّةَ ببُكائِهِ"(7).

* وعين بكت من خشية الله
بكلمة، كلّ شيء له حدود، إلّا بكاء الخشية من الله تعالى، حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: "كُلُّ عينٍ باكيةٌ يوم القيامةِ إلّا ثلاثة: عينٌ غُضَّت عن محارِمِ الله، وعينٌ سهرت في طاعةِ الله، وعينٌ بكت في جوفِ الليل من خشيةِ الله"(8).

اتجه نحو الخالق تعالى واخلُ به وناجِه بمناجاة أبي حمزة الثمالي: "اللهمَّ، إنِّي كُلَّما قلتُ قد تهيَّأتُ وتعبَّأتُ وقُمتُ للصَّلاة بين يديكَ وناجيتُكَ ألقيتَ عليَّ نعاساً إذا أنا صلّيتُ وسلبتني مُناجاتكَ إذا أنا ناجيتُ، ما لي كُلَّما قلتُ قد صلحَتْ سريرتي، وقرُبَ من مجالِسِ التوَّابينَ مجلسي، عرضَتْ لي بليةٌ أزالت قدمي، وحالت بيني وبينَ خِدمتِكَ، سيّدي لعلّكَ عن بابِكَ طردتني وعن خدمتكَ نحّيتني، أو لعلَّكَ رأيتني مُستخِفّاً بحقّكَ فأقصيتني، أو لعلّكَ رأيتني مُعرضاً عنك فقليتني، أو لعلّكَ وجدتني في مقامِ الكاذِبينَ (الكذّابينَ) فرفضتني، أو لعلَّكَ رأيتني غيرَ شاكِرٍ لنعمائِكَ فحرمتني، أو لعلّكَ فقدتني من مجالِسِ العلماءِ فخذلتني، أو لعلّكَ رأيتني في الغافلينَ فمِن رحمتِكَ آيستني، أو لعلّكَ رأيتني آلِفَ مجالسِ البطّالينَ فبيني وبينهم خليتني، أو لعلّكَ لم تُحِبَّ أن تسمعَ دُعائي فباعدتني، أو لعلّكَ بجُرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّكَ بقِلَّةِ حيائي منكَ جازيتني..."(9).

وصفوة الكلام هي أنّه بهذه المناجاة يمكن معرفة الأمراض الباطنية والأسقام القلبية، وأسباب الإشاحة عن الله، كي يتسنّى بعد ذلك التفكير في علاجها، وإصلاح النفس. وفّقنا الله تعالى وإيّاكم لمرضاته.


1.أصول الكافي، الكليني، ج2، ص268.
2.جامع السعادات، النراقي، ج3، ص48.
3.أصول الكافي، (م.س)، ج2، ص272.
4.مفاتيح الجنان، عباس القمّي، دعاء أبي حمزة الثمالي.
5.جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج14، ص363.
6.أصول الكافي، (م.س)، ص268.
7.رسالة لقاء الله، الحاج ميرزا جواد ملكي، ص147.
8.أصول الكافي، (م.س)، ص482، باب البكاء، ح4.
9.مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي المروي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع