مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

إنشاد الشعر في شهر الصوم بين الكراهية والاستحباب



ولاء إبراهيم حمود


بين استحباب لا نأثم لو تركناه ومكروه لا نذنب لو فعلناه يقف الصائم من أمره على "خطرين": "أيترك سجيته حرة طليقة تنساب مع أبيات من الشعر تحاكي أصداء نفسه وقد فاضت من ذاكرته على لسانه عفو الخاطر؟ أم ينتبه من أحلى لحظات وجده ويتذكر بعفوية الخاطر نفسها حكماً فقهياً طالما صافح عينيه فاستوطن الحافظة وهو "يكره للصائم جملة أشياء، منها: شم الطيب وإنشاد الشعر إلا في مراثي الأئمة أو مدائحهم".

ومع هذه اليقظة الضابطة كحرس الحدود، يستعيد الصائم ذاته الهائمة في فضاء الشعر ويعود إلى واقعه بشدة لا يُحسن تقديرها إلا من تهيم عيناه بالقوافي الشاردة على متن القصيدة العمودية أو السابحة في عباب القصيدة الحديثة، لذلك ما تهدف إلى طرحه هذه المقالة لا يعدو أن يكون في جوهره دعوة لا لإعادة النظر في موضوع إنشاد الشعر، بل لإعادة النظر في قراءته وتطبيقه، شأنه شأن معظم الموضوعات التي غالباً ما تبتلى ـ وهي الأحكام الفاصلة ـ بسوء فهمنا لها وخطأ تطبيقنا إياها، وهذه المفارقة تبرز جلية في التعاطي على وجه الخصوص مع أحكام الصوم في شهر رمضان ومظاهره، وتتجلّى هذه المفارقة في المغالاة رفضاً مثل تجنب عقد القران، هذا التجنب الخاضع لأحكام عرفية اجتماعية لا تمتُّ إلى الأحكام الشرعية بصلة.
وحكايتنا مع الشعر هي ذاتها حكايتنا مع شق التمرة، وتكاد الحكايتان تكونان واحدة، مجافاة تلامس حد القطيعة أو تكاد.

أمرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإفطار صائم ولو بشق تمرة، فتركنا إفطار الصائم حياءً من اقتصار قدرتنا أحياناً على الشق أو ما يماثله، أو أقمنا الولائم الباذخة التي غالباً ما تنتهي إلى بطون البراميل الفارغة لا إلى أحشاء الجياع الخاوية. وفي الشعر كُره لنا إنشاده انسجاماً مع روحانية هذا الشهر، فتجنّبناه حراماً موبقاً وتناسينا الاستثناء العظيم الذي يؤكد حلّية إنشاده، ولكن بمضمون يدعم روحانية الصوم. ولا تحتوي الدنيا موضوعاً يفوق حب الأئمة شعراً ونثراً، روحانية تقًى وعبادة. لذلك يطرح السؤال نفسه: لم تهدأ حرة الشعر في هذا الشهر الفضيل؟ هل لأن الشعر ينتقص فعلاً من الفيض الروحاني للصائم ويبعده حقاً عن ضفاف الرحمة الإلهية؟ أم لأن الصوم يفتقد إلى الموضوعات التي توقظ القريحة الشعرية والسليقة اللغوية؟؟

التاريخ يشرّع صفحاته ليجيب عن هذين السؤالين، فنقرأ فيها أن استدارة هلال شهر رمضان بدراً لم تكتمل إلا بولادة أولى تباشير حزمة الضوء في بيت آل محمد، وذلك يوم وُلِدَ الحسن عليه الصلاة والسلام، ومن أحسن من الحسن مولوداً تليق بطلته القافية المتهادية على فرح الولادة شعراً مستقيماً على بحر الولاء والحب في هذا الشهر العظيم؟؟ لم تفتقد ولادة المجتبى عليه الصلاة والسلام حقها من عالم القصيدة العصماء؟؟ أيكون من "سوء طالع" الحسن عليه الصلاة والسلام أنه ولد في شهر يخفت فيه صوت الشعر نهاراً بحجة الكراهية، أو ليلاً بحجة تعويض ولائم النهار؟ أم هو سوء فهمنا وعدم معرفتنا لأصول القراءة الصحيحة للحكم الشرعي؟ هذا الحكم الذي استثنى بجلاء ووضوح مدائح الأئمة ومراثيهم، والحسن عليه الصلاة والسلام هو باكورة الضياء المشع بين علي وفاطمة عليها الصلاة والسلام والِدَي أئمة الهدى. لذلك أتساءل لم كان قدر الحسن أن يصيبه حياً وبال فتنة خبيثة وهو في محرابه يصلي، وسهام موقف غير مستبصرٍ وهو في طريقه إلى جوار ربه، وأخيراً طلقات حكم صادر عن غير مطلقيه وأصحاب الرأي فيه؟؟.

والمراثي مسيلات الدمع، ينابيع الأسى، ألا تختزنها منذ ألفٍ وأربعمئة عام وأكثر شهادة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام صبيحة الحادي والعشرين من شهر العبادة؟؟ ولو كان حكم كراهية إنشاد الشعر يعني إخفات صوته أو خنقه كما يحدث اليوم، فبِمَ تُفسر الاستنكار الشهير الصادر نعياً كئيباً عن أحد أهم أتباع علي المخلصين، أي أبي الأسود الدؤلي الذي استنكر شعراً حادثة الاغتيال الأولى في التاريخ الإسلامي، التي طالت حينما شجت رأس سيد الوصيين كل قيمة وفضيلة ومبدأ، وذلك عندما تساءل الدؤلي ملتاعاً:

أفي شهر الصيام فجعتمونا

 

بخير الخلق طراً أجمعينا؟


ذاً المشكلة لا تكمن في غياب الموضوعات التي تحرك الجمود في مسيرة الشعر العربي في شهر الصيام، ولا في حكم لم يحرمه أصلاً، إنما تكمن المشكلة في انعدام همة بعض الشعراء المعاصرين في هذا الشهر اختباءً خلف حكم شرعي يستثني من الكراهية موارد النور ومناهل العطاء في تاريخ أمتنا.
رب قائل يقول، هذا شهر عبادة والدعاء أحد أهم مساكب هذه العبادة في رحاب الرحمن. ولا شك في أنه قول صحيح، ولكن التساؤل التالي يصح هنا أيضاً، وهو: هل يتعارض واقعاً البناء الشعري للقصيدة الهادفة مع بناء المناجاة التي ارتقت إلى الله دعاءً، ألا تتشابه الزيارة المستحبة قراءتها بعد دعاء الافتتاح بمضمونها وأجرها مع تائية دعبل الخزاعي في آل البيت وفي مأساتهم الكربلائية؟
ألا يختزن الدعاء شكلاً ومضموناً موسيقى الشعر العربي، أن من حيث موسيقاه الداخلية المقطعية، أم من حيث القافية التي تتحد في نهايات مرسلات المقطع الواحد "الحمد لله الظاهر بالكرم مجده.. الباسط بالجود يده". لنلاحظ المقطعية المتوازنة التي تقوم عليها كل مرسلة تكاد تؤلف في ما بينها داخلياً موسيقى لبيت شعر مجزوء حيناً أو كامل التفعيلة أحياناً، وخارجياً تكاد تؤلف في اتحاد قوافيها أشطاراً مصرّعة كمطالع القصائد العمودية، ومصداق ذلك في دعائي التوسل والجوشن الكبير واضحة.

نعلم يقيناً أن الدعاء أرقى من الشعر هدفاً وأسمى غاية، ويكفيه علو منزلة أنه النص الأدبي الخالد المتحرك سؤالاً بين العبد ومعبوده، والمتحرك استجابة بين الخالق ومخلوقه، وذلك في خطٍ مستوٍ في كل الاتجاهات الموصلة إلى الله، ويستقيم على جادة الخشية والخشوع والرهبة. أما الشعر فهو يتجوّل في حركة دائرية بين البشر، متوازية تحتفظ دائماً بخطوط رجعة مفتوح على سكك الرفض والقبول، خلافاً للدعاء الذي وعد الرحمن داعيه بالإجابة، وذلك في ندائه القرآني سبحانه "أدعوني أستجب لكم". ولكن الشعر إذا استقام في شهر الرحمة على جادّة الحكم الشرعي الذي يعلن كراهيته باستثناء مدائح الأئمة ومراثيهم، يجد مساحاتٍ مضاءة بنور ولادة البدر ليلة ولد الحسن المجتبى، فلتكن هذه الولادة المميزة بـ"أجواء ولا أحلى" من روحانيات الصوم أجنحة يحلق الشعر بها في هذا الشهر المبارك إلى ما يقارب الدعاء، سالكاً دربه نفسها إلى رحاب الله. وبالأمس المتباعد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة"، فلتكن الحكمة قرينة لعبادتنا في هذا الشهر العظيم، وليرتفع صوت القصيدة العربية مواسياً الأمة الإسلامية في استشهاد الفدائي الأول في تاريخها الاستشهادي في يوم علي عليه الصلاة والسلام، أو مهللاً مباركاً للأمة انتصارها يوم بدر الكبرى، لتنتصر ثانية في أيام مقاومتها الرائدة في هذا الزمن العابق استسلاماً، أو مشاركاً في أفراح ولادة الحسن عليه الصلاة والسلام، منصفاً إياه وليداً استحق امتداد أفضل الشهور مهداً لولادته البهية.

ولمن يتحرج متهرباً تحت ستار الكراهية التي أطلقت عرفاً على وجه العموم، أترك الكلمة الأخيرة التي وردت على لسان "ابن عباس" عندما سئل عن حكم إنشاد الشعر في شهر الله، تلك الكلمة التي جاءت شعراً مازجاً فيه الحكم الشرعي بالطرافة الخاصة به في معظم إجاباته الفقهية، غير متحرج من الإشارة إلى أقصر القصص العاطفية في حياة البشر:

نبئت أن فتاة كنت أخطبها


عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول



هذه الإجابة تدفعني للتساؤل: هل ترك ابن عباس لمتحرّك من مدح الحسن الوليد ورثاء والده الشهيد في ندوة تصدح شعراً صائماً بحب هذين العظيمين عذراً... فقهياً..

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع