لقد أنزل اللّه تعالى القرآن الكريم ليكون سبيلاً وهادياً
للبشرية، ومنقذاً للإنسانية من متاهات الضلالة العمياء والحيوانية التسافلية
الجهلاء.
ولقد جمع هذا الكتاب الشريف جميع مراتب ودرجات الهداية، بحيث كان هادياً إلى أعلى
درجات الكمال والقرب ومنقذاً من أسفل دركات البعد. ويكن دوره مقتصراً على الهداية
العلمية كما يتصور البعض، بل هو شفاء ونور ولا يزيد الظالمين إلا خساراً. وأولئك
الذين حصروا الاستفادة من القرآن الكريم في البعد العلمي الحصولي يدركوا من حقائق
الوجود إلا الظاهر، ويعرفوا من العلوم إلا الألفاظ والمصطلحات.
إن هذا الذكر الإلهي كما
جاء فيه يهدي إلى سبل السلام كافة وإلى الصراط المستقيم الذي ينتهي بالرب سبحانه
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾ٍ
ويخرج الناس من الظلمات المختلفة إلى النور الأبدي اللّه نور
السموات والأرض. وهذه الهداية متوقفة على اتباع رضوانه، أي العمل ببرنامجه واتباع
أحكامه، وأهمها أن يقف القارئ منه موقف المتعلم المتعبد وأن يحاول تطبيق جميع
أوامره على نفسه.
فإن جميع العلوم والمعارف الحقة هي معارف عملية حتى علم التوحيد، وعلى القارئ أن
ينظر إلى جميع آيات القرآن بهذه النظرة. وسريعاً سيكتشف هذه الحقيقة ويجد أن كل آية
في هذا الكتاب الإلهي ويجد أن كل آية في هذا الكتاب الإلهي تدل على حكم عملي أو نهي
مولوي أو برنامج تطبيقي. وإذا فهم القارئ مثل هذا البعد وحاول العمل به فإنه يكون
قد راعى أدباً آخر من الآداب المعنوية لقراءة القرآن الشريف وهو "التطبيق".
ويذكر الإمام الخميني قدس سره أن أداء هذا الأدب الإلهي ينيل الإنسان نتائج كثيرة
وفوائد غير متناهية، وسر ذلك كما علمت ان القرآن قد تضمن جميع مراتب العظمة
اللامتناهية، وهو مظهر الكمال المطلق، احتوى على الغنى الذي لا فقر بعده. والتطبيق
طريق العروج في مراتب القرآن أي في مراتب الكمال والفوائد اللامتناهية.
* كيفيته:
فحينما يتفكر القارئ في كل
آية من الآيات الشريفة عليه أن يستخرج منها الحكم العملي ويقوم بتطبيق مفاده على
حاله، فيرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به.
مثال: إذا قرأ قصة آدم عليه السلام وما جرى عليه وفكر في سبب مطرودية الشيطان من
جناب القدس مع تلك العبادات الطويلة والسجدات الكثيرة، فلماذا أخرج اللّه تعالى
إبليس من حرم قربه بعد أن كان في مجمع ملائكته؟.
وعندها يتعرف إلى الأوصاف
الإبليسية والأخلاق الشيطانية التي كانت سبب الطرد والإخراج، ويعلم أن كل من يتّصف
بها مطرود لا محالة. وتكون العبرة والفائدة العملية لزوم تطهير النفس من هذه الصفات،
لأن مقام القرب الإلهي مقام المطهرين.
فالمستفاد من الآيات الشريفة في هذه القصة القرآنية أن مبدأ عدم سجود إبليس هو رؤية
النفس والعجب، حيث قال:﴿قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ٍ
.
فهذا العجب صار سبباً لحب النفس والاستكبار، وصار سبباً لعصيان الأوامر فأدى إلى
طرده من جناب القدس وحريم الإنس.
أما نحن، فربما نكون قد خطبنا الشيطان من أول عمرنا واتصفنا بأوصافه الخبيثة، ونفكر
في أن ما كان سبب طرده عن جناب القدس إذا كان موجوداً في أي شخص فهو مطرود أيضاً
وبعيد عن رحمة اللّه التي أُعدت للعابدين، يقول الإمام قدس سره أيضاً:
"وأنا أخاف من أن نكون شركاء إبليس في اللعن الذي نلعنه" (الآداب المعنوية ـ ص
354).
مثال آخر: ولنفكر أيضاً في هذه القضية الشريفة ونرى ما هو سبب امتياز آدم وأفضليته
على الملائكة المقرّبين الذين كانوا من أهل التسبيح والتقديس والعبادة التي لا تعرف
توقفاً ولا فترواً؟ فبعد سؤال الملائكة عن هذا الخليفة الإلهي، نجد أن اللّه تعالى
يقول:
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ
فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ٍ.
*فما هي حقيقة تعلُّم الأسماء؟
وإذا قال تعالى:
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ
بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾،
فما هو هذا الأنباء؟.
هل أن واسطة التفهيم والاتصال بالملائكة هي الألفاظ والمصطلحات؟ وهل أن الملائكة
كانت تجهل الألفاظ؟.
فالتفكر في هذه الأسئلة يوصل القارئ إلى حقيقة أن هذا التعليم للأسماء هو "التحقق
بمقام أسماء اللّه" (الآداب المعنوية). كما أن المرتبة العالية من الإحصاء الذي جاء
في الرواية الشريفة "ان لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" هو التحقق
بحقيقتها التي توصل الإنسان إلى جنة الأسماء.
الإنسان يستطيع أن يكون مظهراً لأسماء اللّه والآية الإلهية الكبرى بالارتياضات
القلبية. ويكون وجوده وجوداً ربانياً. وفي الحديث الصحيح: "لا زال عبدي يتقرب إليّ
بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه
الذي ينطق به ويده التي يبطش بها". وعلى كل حال فالشواهد العقلية والنقلية على هذا
الأمر كثيرة، وإنما أردنا أن نبين من هذه القصة القرآنية كيفية الاستفادة بالسعي
إلى هذا المقام لأجل صيرورة القارئ مظهراً لأسماء اللّه وصفاته. وإذا أدرك هذا
القارئ سر وجوده واستخلافه وعلم سبب خلقه وإنزاله إلى هذه الأرض ربما التفت إلى
الودائع الإلهية فيه والذخائر الربانية المودعة في أعماق نفسه وعرف أن طريق الوصول
إلى حقيقته أنما يكون بتعلم الأسماء وهذا ما لا يتيسر إلا بترك الأوصاف الابليسية
والتي يقف العجب والتكبر على رأسها جميعاً.
وإجمالاً، من أراد أن يأخذ من القرآن الكريم الحظ الوافر والنصيب الكافي، فعليه أن
يؤدي جميع آدابه ومنها التطبيق بعد التفكر. فيقوم بتطبيق كل آية شريفة من الآيات
على حالات نفسه، لأن لكل آية مقامات تناسب كل حالة عند كل إنسان.
فاللّه سبحانه يقول في
سورة الأنفال:﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾.
وعلى السالك أن يلاحظ هذه الأوصاف الثلاثة هل تنطبق عليه؟ وهل ان قلبه يجل إذا ذكر
اللّه ويخاف؟ وإذا تليت عليه آيات اللّه هل يزداد نور الإيمان في قلبه؟.
وهذه الآية الشريفة تبين مجموعة من الحقائق الإيمانية والأحكام العلمية. فالمؤمن هو
الذي يشعر بالوجل والخوف عند ذكر اللّه، لأنه يستحضر عظمته ويدرك جلالة حضوره.
وبالتالي، فغير المؤمن من لا تظهر عليه هذه الحالات. أو بتعبير أدق إن من لا يشعر
بالوجل من ذكر اللّه يصل إلى النصاب المطلوب من الإيمان. وسبب ذلك يعود إلى أن
الأيمان المطلوب هو إيمان القلب، قال اللّه تعالى:
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون﴾
والقلب هو أمير البدن وقائده الذي تأتمر بأمره الأعضاء والجوارح. فحركة الأعضاء
تابعة للقلب، ولذلك فهي مظهره ومرآة انعكاس حاله. فإذا كانت هذه الأعضاء متأثرة
بذكر اللّه وتلاوة آياته يُعلم أن هذا القلب مؤمن بالشكل المطلوب.
وهكذا يلتفت القارئ إلى هذه الدعوة الإلهية ويعمل على إدخال الإيمان إلى قلبه من
خلال التوكل على اللّه وتلاوة الآيات التي تزيده أيماناً.
* يقول الإمام الخميني قدس سره:
"فوظيفة السالك إلى اللّه أن يعرض نفسه على القرآن الشريف. فكما ان الميزان في صحة
الحديث وعدم صحته واعتباره وعدم اعتباره يكون بعد عرضه على كتاب اللّه، فما خالف
كتاب اللّه فهو باطل وزخرف. كذلك الميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاء والسعادة
هو أن يكون مستقيماً وصحيحاً في ميزان كتاب اللّه... كذلك جميع معارفه وأحوال قلبه
وأعمال الباطن والظاهر لا بد أن يطبقها على كتاب اللّه ويعرضها عليه حتى يتحقق
بحقيقة القرآن ويكون القرآن صورة باطنية له"، (الآداب).
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "من تعلم القرآن فلم يعمل به وآثر عليه حب
الدنيا وزينتها استوجب سخط اللّه، وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذين ينبذون
كتاب اللّه وراء ظهورهم"، وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن قرأ القرآن ويعمل به حشره اللّه يوم القيامة أعمى فيقول رب حشرتني أعمى وقد
كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتي فنسيتها وكذلك اليوم نسى فيؤمر به إلى النار".
وروي في الخصال ومعاني الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه قال: "حملة
القرآن عرفاء أهل الجنة". يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن المعلوم أن المراد من
هذا العمل هو حمل معراف القرآن وعلومه وتكون نتيجته في الآخرة أن الحامل يكون في
عداد أهل المعرفة وأصحاب القلوب. أما لو حمل القرآن من دون الاتعاظ بمواعظة وتحمل
معارفه وحكمه والعمل بأحكامه وسننه فهو كما قال تعالى:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.