مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قادةٌ إمامهم عليّ عليه السلام


آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


بَعْد أن تحقّق النصر للإمام عليه السلام وأصحابه في حرب الجمل، ودخلوا البصرة، قام أحد أصحاب الإمام عليه السلام، وهو الأحنف بن قيس أحد وجهاء البصرة بدعوة الإمام عليه السلام وأصحابه إلى منزله بعد أن هيّأ له وسائل الضيافة. وبما أنّ حضور أصحاب الإمام عليه السلام كافّة كان صعباً، حَضَر الإمام عليه السلام وقادة عسكره. بدايةً دخل الإمام عليه السلام ثمّ طلب من الأحنف أن يُرسل من يدعو قادة جيشه. لعلّ الأحنف كان يتصوّر أنّ قادة الجيش أشخاص أصحاب هيبة وجبروت، عليهم ألبسة فاخرة، إلّا أنّه وجدهم أصحاب أبدان نحيفة وضعيفة وألبسة بالية.

* دخل عليه قوم متخشّعون
"فدخل عليه قوم متخشّعون كأنّهم شِنان بوالٍ(1). فقال الأحنف بن قيس: "يا أمير المؤمنين ما هذا الذي نزل بهم؟ أمن قلّة الطعام أو من هول الحرب؟ فقال صلوات الله عليه: لا يا أحنف. إنّ الله سبحانه أحبّ أقواماً تنسّكوا له في دار الدنيا تنسّك من هجم على ما عَلِم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها؛ فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على الله سبحانه، توهّموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربّهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الأشهاد فضايح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيراناً"(2).

* هؤلاء قادة جند الإمام عليه السلام
وإذا أردنا الخوض في هذه المعاني كمزايا خاصّة لهم، وتأثير هذه المزايا في شخصيّاتهم، ربّما وجدنا أنّها سبب قربهم من المولى أمير المؤمنين عليه السلام ليتّخذهم قادة جنده، منها:

1- يؤمنون بالمعاد ويخافون من العذاب

يعتبر الإمام عليه السلام في إطار التعريف بأصحابه الخُلَّص وصفاتهم المتعالية، أنّهم آمنوا واعتقدوا بقرب القيامة وبالعذاب الأُخروي الأليم الذي سيلحق بالعاصين. وبما أنّهم أشخاص قلقون على مصيرهم في الآخرة، فهم مشغولون بعبادة الله تعالى ويبذلون كلّ جهودهم من أجل زاد ذاك اليوم. يقول الله تعالى حول دور الإيمان بالمعاد والقيامة على مستوى العبوديّة لله والعباد أصحاب اللياقة: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ (النور: 37). عندما يفكّر عباد الله الصالحون في اليوم الذي سيُعَرضون فيه على الله تعالى، لتُقدَّم أعمالهم، يتصوّرون أنّ كتلة من نار جهنم تتّجه نحوهم. هؤلاء موقنون أن لا مفرّ لأحد من ذاك اليوم، الذي تُعرض فيه صحيفة أعمالهم أمام الجميع، وعلى أثر ذلك ينكسون رؤوسهم؛ لأنّهم سيُفضحون على مسامع الجميع ويرتجفون من وحشة العذاب الإلهيّ، وكأنّ أرواحهم قد خرجت من أجسادهم فتصير كالطيور التي اجتمعت على شجرة، ثمّ إذا شعرت بالخطر، طارت من الخوف للنجاة منه.

2- يحنّون حنين الواله إلى الله

"وتفارقهم عقولهم إذا غَلَتْ بهم مراجل المِجْرَد إلى الله سبحانه غلياناً، فكانوا يحنون حنين الواله في دجى الظُّلم، وكانوا يُفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم، فمضوا ذُبُل الأجسام حزينةً قلوبهم، كالحةً وجوههم، ذابلةً شفاههم، خامصةً بطونهم، (...) متخشّعون كأنّهم شنان بوالٍ". "المراجل" جمع "مِرْجل" وهو القدر، و"المِجْرد" هو وعاء يوضع فيه الذهب لتصفيته ولإزالة الشوائب منه. يُشبِّه الإمام عليّ عليه السلام في عبارة: "وتفارقهم عقولهم إذا غلَت مَراجل المِجرد إلى الله سبحانه غلياناً" العباد الصالحين بأنّهم إذا حضروا إلى الله وكأنّهم في قدورٍ تغلي فتزول أعمالهم السيّئة خوفاً من الله والآخرة حتّى تفارق عقولهم وتخرج من الرؤوس.

وقد قدّم الإمام عليه السلام هذا الوصف لأصحابه أمام صاحب المنزل ليدرك أنّ ألوانهم المصفرّة وأجسامهم النحيفة ليست ناشئة عن الخوف من الحرب؛ لأنّهم أشخاص يعشقون الشهادة ويتمنّونها باستمرار، بل يعود خوفهم إلى الأفكار التي تعبر أذهانهم باستمرار عن القيامة وأهوالها.

هؤلاء أشخاص ينهضون وسط الليل يناجون ويبكون خوفاً ممّا سيحصل لهم في القيامة وعذابها. أدهشوك إذا نظرت إليهم إلّا أنّ هذه الدهشة تعود لمجالستهم وحشة الليل؛ الوحشة من التفكير في القيامة والآخرة والمصير.

3- أخلصوا سرّاً وعلانية

"قد أخلصوا لله أعمالاً سرّاً وعلانية فلم تأمن من فَزعِهِ قلوبهم، بل كانوا كَمن حرسوا قباب خراجهم. فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامتِ العيون، وهدأتِ الأصوات وسكنَتِ الحركات، (...) وقد [نبّههم] هول يوم القيامة بالوعيد عن الرقاد".

إنّ عباد الله الخالصين هؤلاء يعملون لله سرّاً وعلانيةً وهم بعيدون عن الرياء والتظاهر والأنانيّة. والإخلاص هذا لا يقدّم لهم الأمان ولم يجعلهم في مأمن من عذاب الله، بل هم يشعرون بعدم الأمان من عذاب الله. هؤلاء كحرّاس القصور والخزائن القيّمة المحتويات، يراقبون أعمالهم بدقّة وقد طار النوم من أعينهم خوفاً من أنْ يتسلّل الشيطان إليهم. إذا نظرت إليهم عندما تغرق أعين الناس في النوم وتهدأ الأصوات وتتوقّف الطيور في أعشاشها عن الحركة، تراهم لا يهدأ لهم بال خوفاً من عذاب القيامة ولهيب العذاب الإلهيّ، "كما قال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ (الأعراف: 97)، فاستيقظوا لها فزعين وقاموا إلى صلاتهم معولين باكين تارة وأخرى مسبّحين، يبكون في محاريبهم ويرنون، يصطفّون ليلة مظلمة بهْماء يبكون. فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافها منحنيةً ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلواتهم قد اشتدّت أعوالهم ونحيبهم وزفيرهم"(3).

4- تتجافى جنوبهم عن المضاجع

تصوّروا جماعة من الأشخاص يمضون الليل خائفين من قصف العدوّ، وتصوروا الأطفال والنساء الذين شاهدوا مناظر مرعبة لقذائف العدوّ وقصفه. هل ستنام أعينهم من الخوف والوحشة؟ يعتبر الإمام عليه السلام أنّ العباد الصالحين قد طار النوم من أعينهم خوفاً من العذاب الإلهيّ، وقد نهضوا للاشتغال بالصلاة والدعاء والتضرّع فلا يتوقّفون لحظة عن الدعاء. هذا وصف لأحوال أشخاص لا يعتبرون أنفسهم في مأمن من العذاب الإلهيّ ويحتملون أن ينزل العذاب عليهم ويحتملون أن لا يرضى الله عنهم وأن تُفْشى أعمالهم القبيحة على الملأ فيفتضحون عند الجميع.

يجب أن نوقن أنّنا لسنا في مأمن من العذاب الإلهيّ وأنّنا قد نُبتلى بعذاب طويل وصعب مقابل كلّ ذنب نقترفه. ممّا لا شك فيه أنّ مثل هذا الاحتمال كفيل بإزالة الهدوء والراحة منّا وكفيل بأن يجعلنا نلجأ إلى باب بيت الله نقف في محضره ليلاً نبكي ونتضرّع، ونكون كالمؤمنين المعتقدين بالله الذين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (السجدة: 16).

* لله عباد شاكرون
لم يكن الإمام عليه السلام في معرض التعريف بأصحابه وتبرير وضعهم الظاهريّ أمام الأحنف بن قيس فقط، بل تمكّن الإمام عليه السلام من أن يضع بين أيدينا حكمة خالدة، فلا نظنّ نحن اليوم وبعد 1400 سنة أنّ ركعتين من الصلاة وبعض (أعمال الخير) توصلنا إلى القرب والكمال، ولا نظنّ أنّنا بادّعائنا أنّنا خدم لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف أو أنّنا شيعة وولائيون، فقد صلُحت أمورنا. أولياء الله لا يقنعون بهذه الأعمال القليلة. الله يحب أن يذكره عباده عند الضعف والفقر والخطر. صحيح أن الله تعالى هو أرحم الراحمين، إلّا أنّنا عباد نفتقد للشكر، فلو أنّ شخصاً قدّم لنا مساعدة أو خدمة صغيرة لبقينا العمر خاضعين له، ولكن نسينا الله الذي أغرقنا بنعم لامتناهية ولم نبادر إلى شكره. وإذا فقدنا نعمة، أو أصابنا الغلاء والقحط والبطالة، بدأنا الشكوى، ومع ذلك لا نشكر مقابل النعم اللامتناهية التي وضعها بين أيدينا، بل نرفع أصواتنا بالاعتراض على ما قد يصيبنا من نقص. ولله عباد شاكرون له باستمرار ولا يتركون الشكر على الإطلاق.


1.شِنَان: جمع الشن: القربة البالية، وبوالٍ جمع بالٍ؛ أي خَلِق، وهو القديم المهترئ.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج65، ب8، ص170-172.
3.(م.ن).
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع