بعد تفكك الكتلة الشرقية والتغيير الهائل في الجغرافيا السياسية للقارة الأوروبية وبروز شعوب وبلدان كانت لسنوات واضحة عنوة وغصباً تحت احتلال الأجانب أو قابعة تحت نفوذهم، ظهر عدد من البلدان المسلمة المستقلة في آسيا الوسطى وهي تضم شعوباً ترفع صوتها بالإسلام وتفخر بإسلامها وتنشد تطبيق الشريعة الإسلامية. وبعد استفتاء جماهيري عظيم، قرر مسلمو البوسنة والهرسك الاستقلال عن صربيا الشيوعية. ولئن نالت هذه الجمهورية المسلمة الاعتراف الدولي المطلوب فإنها لم تنل التضامن الدولي المفترض ولا حتى اللهفة الأوروبية التي نالتها جمهوريتا كرواتيا وسلوفينيا في الطريق إلى التحرر من الصرب.
وكما هي حال معظم الأقليات الإسلامية في بقاع العالم، يتعرض المسلمون في يوغوسلافيا السابقة لأعنف حملة إبادة من قبل النظام الصربي الذي يحاول إلحاق ما أمكنه من أراضي الجمهورية المستقلة إلى يوغوسلافيا الجديدة المكونة من صربيا والجبل الأسود. و"القمع الدموي الوحشي الذي يتعرض له المسلمون في سرابييغو الواقعة في قلب أوروبا المسماة بالمتحضرة تبلغ درجة من الخشونة والوحشية بحيث تذكر الإنسان بالمجازر الأوروبية المعروفة في القرون الوسطى وبالحروب الدينية والعنصرية التي شهدتها هذه القارة المغامرة مع فارق هو أن حرب يوغوسلافيا السابقة يستفيدون اليوم من الآلة الحربية المتطورة في ارتكاب المذابح الجماعية بحق المسلمين" حسب تعبير السيد القائد حفظه الله.
والمراقب للأحداث يستطيع أن يشير بأصبع الاتهام إلى الإدارة الأميركية في تفاقم الأزمة واستفحالها. فهذه الأزمة التي تتفاعل منذ سنوات والتي انفجرت منذ أكثر من عام، كان بإمكان السياسة الأمريكية بفضل ما تتمتع به من ثقل دولي، القيام بأكثر من تحرك واستخدام وسائل متعددة لطي ملف هذه الحرب، لكنها اكتفت بموقف ظاهره حيادي، إلا أن المراقب لسير هذه السياسة يلمس حركة أمريكية واضحة في تسعير هذه الحرب، وفي التحريض على استمرارها، وذلك بهدف الوصول بالوضع اليوغوسلافي تحت وطأة لهيب الانفجارات والمجازر البشرية إلى مرحلة تمهد لتدخل أميركي يعيد ترتيب منطقة البلقان بما تمليه المصالح الأمريكية وبما يؤثر سلباً على مصالح أوروبا ومصداقيتها في جوارها الجغرافي.
ولهذا، فإن ما أملى على الأمريكيين تحريك مجلس الأمن لاستصدار القرار 757 الذي يضع جمهورية الصرب على القائمة نفسها مع العراق وليبيا فيما يتعلق بالإدانة الدولية وفرض العقوبات الشاملة وإعلان البدء بتنفيذ القرار الذي يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ليس اكتشافهم المتأخر للنزعة التوسعية للرئيس الصربي سيلوسيفيتش، ولا الموقف الإنساني من المجازر الشنيعة التي ترتكب بحق مسلمي البوسنة والهرسك، فهذه الحقائق كانت ظاهرة للعيان منذ بدء الأزمة. بل إن ما أملى هذا القرار على الأمريكيين- وككل القرارات الدولية السابقة- لم يكن إلا غطاءً لفعل أمريكي أوسع. وما قرار حلف شمالي الأطلسي القاضي بالتدخل العسكري لكسر حلم الصربيين في بناء صربيا الكبرى إلا أول الغيث، لما تنتظره منطقة البلقان من مزيد من التدخل الأمريكي ومن اللعب على تناقضاتها الكثيرة للتحكم بالأوضاع هناك من جهة، ولتحجيم القوى المنافسة من جهة أخرى.
وبذلك تلقت أوروبا صفعة قوية من الولايات المتحدة، لأنها أظهرت عجزاً واضحاً في معالجة الشأن اليوغوسلافي، رغم أهميته لها، باعتباره من شؤون القارة الأوروبية، وبدت الحاجة لواشنطن ضرورية في حل المشكلات سواء في أوروبا أم في غيرها. ولا شك أن هذا الواقع يعزز من موقع واشنطن التفاوضي على صعيد العلاقات مع الأوروبيين. ويعطي قوة لوجهة نظرها من سائر النقاط المثارة بين الجانبين، لا سيما طبيعة الوحدة القادمة فيما لو تمت، ووضع القوة الأوروبية المشتركة إضافة إلى دور الحلف الأطلسي في المرحلة القادمة.
وهذا القرار بالتدخل العسكري للأطلسي، بغض النظر عما يفعله الصرب في البوسنة والهرسك وعما فعلوه في كرواتيا وسلوفينيا سابقاً، ينطوي على مخاطر جمة لها تشعباتها وامتداداتها على أنحاء العالم كافة.
واستناداً إلى وجهة النظر الأطلسية، والتي هي أمريكية تحديداً، فإن أطلال الاتحاد السوفياتي وملحقاته ومنطقة الشرق الأوسط هي مناطق عالية التوتر، ولا يكتمل حاضرها السياسي داخل الجوف الغربي، بل هي في توتراتها الداخلية تحمل بذوراً مضادة للغرب واحتمالات خروجها عنه.
وهذا ما يدفع حلف الأطلسي لوضع حد للطموحات الصربية التي تبدو متعلقة الجذور بشيوعية آفلة. وما يختص بالشرق الأوسط وخصوصاً العالم العربي منه، فإن توتره الداخلي القائم على الشرخ بين النظام الرسمي والحركات الإسلامية، تجعل الغرب في حالة استنفار دائم حياله، وربما يقتضي الأمر تدخلاً ما، إذا ما أفلتت إحدى الحركات الإسلامية في المنطقة عن رقابة الأطلسي واستلمت الحكم في قطر عربي معين.
المسألة إذاً، تخرج عن ظاهر الحدث اليوغوسلافي وتمتد إلى ما هو استعداد غربي للانقضاض على الطامحين للخروج من السطوة الغربية وعملياً هذا هو موجز النظام العالمي الجديد.
وعلى هذا يكون التدخل العسكري الأطلسي في يوغوسلافيا هو الشكل الإنسيابي الثالث في خطة عمل النظام المذكور الذي دشنته الولايات المتحدة بداية في العراق ومرت به على ليبيا في صورة مقاطعة اقتصادية وسياسية وحلت به ثالثاً في يوغوسلافيا القديمة.