آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي (حفظه الله)
تُعدّ غيبة إمام العصر من أهمّ المسائل الأصيلة في تاريخ الفكر الإسلامي، ولذا كان
المعصومون عليهم السلام ابتداءً بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاءً
بالإمام العسكريّ عليه السلام يشيرون مراراً وتكراراً إلى وجوده المبارك. كما إنّ
المجاميع الروائيّة الشيعية التي تتناول الموضوع لم تبلغ حدّ الاستفاضة فحسب، بل
تجاوزت حدّ التواتر المعهود. وهي نفسها تذكر أنّ غيبته تطول حتّى يشكّ فيها الناس.
فكيف السبيل إلى معرفته عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
•غيبته امتحانٌ لليقين
يروي محمد بن عثمان العمري أنّ والده(1) سأل الإمام العسكري عليه السلام عن قول
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً
جاهليةً. فقال عليه السلام: نعم، إنّ هذا حقّ، كما إنّ النهار حقّ". [فقيل له:
فمَن الحجّة ومَن الإمام بعدك؟... فأشار الإمام العسكريّ عليه السلام إلى الاسم
المبارك لصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف ثمّ قال:] "أما إنّ له غيبةً
يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون..."(2).
وعلى هذا تكون غيبة صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف امتحاناً صعباً لكثيرٍ
من الناس، فمنهم من يمتلئ ذهنه بالشكوك والشبهات، ومنهم من يقول: كيف يعقل أن يبقى
إنسان حيّاً أكثر من ألف سنةٍ؟! وتُطرح شبهاتٌ أخرى وتتأرجح بين البسيط والمعقّد.
•حتى لا نقع في الشبهات
لا يُعلم متى تبزغ شمس ظهور الوجود المبارك لبقيّة الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه
الشريف، وينبغي أن يكون المسلم على أهبَة انتظار ظهوره الشريف، كما يمكن -لا قدّر
الله- أن يطوّل الله غيبة الحجّة، فيكثر الشكّ والتردّد وبثّ الشبهات. فما العمل
حتّى لا نُبتلى فرديّاً ولا اجتماعيّاً بهذه الابتلاءات الاجتماعية؟ وكيف لا نُبتلى
بجملة من المسائل الدينية، كالمرتبطة بالحكومة الإسلامية، نظير ولاية الفقيه؟ وما
الذي يلزم القيام به حتّى لا نقع في ورطة الشبهات حول المعرفة الحقيقية للإمام
وللإمامة؟
•معرفته صراط الحقّ
إنّ معرفة وليّ الله وإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف هي الطريق الوحيدة
للنجاة، وهي صراط الحقّ الذي لا يتحقّق، إلّا بالتوسّل بالذات الإلهية المقدّسة،
وبالمُجاهَدة العلمية والعملية.
لقد كانت قلوب العشّاق من ذوي البصيرة، منذ القدم، مشغولةً بتحقيق الوعد بالنجاة من
الجهالة والتخلّص من ظلمات الضلالة. ولهذا السبب طرح خواصّ تلامذة أهل البيت عليهم
السلام جملة من التساؤلات؛ لغرض كشف طريق الاهتداء إلى معرفة آخر حجج الله.
•وهو المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف
عن زرارة: عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ للغلام غيبةً قبل أن يقوم.
قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف -وأومأ بيده إلى بطنه- ثمّ قال: يا زرارة، وهو المنتظر،
وهو الذي يُشكّ في ولادته: منهم من يقول: مات أبوه بلا خلفٍ، ومنهم من يقول:
حمل(3)، ومنهم من يقول: إنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين. وهو المنتظر. غير أنّ الله
عزّ وجلّ يحبّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون.
قال زرارة: جعلت فداك، إن أدركت ذلك الزمان أيّ شيء أعمل؟ قال: يا زرارة، إن أدركت
هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: اللهمّ عرّفني نفسك، فإنّك إنْ لم تعرّفني نفسك لم
أعرف نبيّك. اللهمّ عرّفني رسولك؛ فإنّك إنْ لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك. اللهمّ
عرّفني حجّتك؛ فإنّك إنْ لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني"(4).
وليس الدعاء مجرّد ترديد جملةٍ من الكلمات والألفاظ لطلب شيءٍ ما، بل الملحوظ في
أدعية المعصومين عليهم السلام مجموعة هائلة من المعارف العميقة والدروس القيّمة،
التي يؤدّي فهمها والتأمّل في تعاليمها إلى نتائج علمية وعملية قيّمة.
•أفضل طريق: الأدعية والزيارات
وهناك طرق عدّة لمعرفة المقام السامي والشخصيّة الفريدة لإمام العصر عجل الله تعالى
فرجه الشريف، ولعلّه يمكن أن يُقال: إنّ أفضل طريق لذلك هو مراجعة الأدعية
والزيارات المنقولة عن إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أو عن سائر الأئمّة
عليهم السلام فيما يرتبط بالحجّة وأوصافه وكمالاته عجل الله تعالى فرجه الشريف.
كما إنّ في التأمّل في عبارات نهج البلاغة وفي أقوال سيّد الشهداء عليه السلام، من
البدء إلى منتهى حادثة كربلاء... وكذلك في المعارف السامية في الصحيفة السجّادية،
إشارات عدّة يمكن أن يُستنبط منها ضرورة إيجاد المجامع الدينية والعلمية، وإقامة
المناظرات في أُطر علمية سليمة. كما يمكن الإحاطة ببرنامج عمل إمام العصر عجل الله
تعالى فرجه الشريف من خلال الأدعية المأثورة المرتبطة به؛ إذ الإمام عندما يدعو -فمضافاً
إلى مقتضيات الدعاء وشرائط كماله- يبيّن في دعائه خصائص الإمامة وواجبات الإمام،
تُجاه الأُمّة وكيفيّة ارتباط الإمام بالأمّة، والتأثير المُلكي والملكوتي للإمام.
ومن جهة أخرى، فإنّ لمعرفة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف مراتب عدّة لا
تتساوى في تأثيرها على نفض غبار الجاهلية، والقضاء على داء التحجّر في تبيين
الانتظار الحقيقي الصحيح.
وقد أورد الكليني رحمه الله والصدوق رحمه الله أنّ أُولي الأمر إنّما يُعرفون بما
يلي: "اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأُولي الأمر بالأمر بالمعروف
والعدل والإحسان"(5). ولكن لا يمكن لأيّ فرد أن يكون وليّاً للأمر بمجرّد الأمر
بالمعروف والعدل والإحسان؛ لأنّ عدد الآمرين بالمعروف غير قليل. ولهذا السبب ورد في
رواية أخرى: "... بالمعروف والعدل والإحسان"(6) لا "بالأمر بالمعروف"؛ لأنّ
الإمام يُعرف بالمعروف وبالعدل والإحسان، لا بالأمر بالمعروف فقط. وحين يتولّى وليّ
الله ولاية الأمر لا يكتفي بالأمر بالمعروف وبالعدل والإحسان، وإنّما تكون سنّته هي
المعروف وسيرته هي العدل والإحسان.
•أسمى طرق معرفة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف
لنيل معرفة الله تعالى يتّبع الإنسان تارةً سبيل الآيات الآفاقيّة، وأخرى سبيل
الآيات الأنفسيّة(7). وفي مرتبة أخرى يمكن معرفته تعالى على أساس "اعرفوا الله
بالله"(8)، "بك عرفتك، وأنت دللتني عليك"(9) و"يا من دلّ على ذاته بذاته"(10)؛
أي يمكن معرفة الله تعالى بواسطة وجوده المبارك، ويدركه بالشهود المشار إليه بقوله
تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصّلت: 53).
إنّ كلّ ما يودّ الإنسان مشاهدته ينبغي أن يرى الله قبله، كما ينبغي له أن يحيط
علماً ومعرفة بالله تعالى قبل كلّ دليلٍ وقبل فهم كلّ برهانٍ، بل قبل إدراك نفسه.
وهذا النحو من المعرفة أسمى وأنفع طريق للمعرفة، وهو متاح لجميع البشر، كما إنّه
طريق القلب، فلا يحتاج إلى اصطلاحات فلسفيّة خاصة، بل يرتكز على الهداية الكامنة في
نفوس الجميع، الحاضرة عندهم بنحو الدوام.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين
عليهم السلام هم المظهر الأتمّ لأسماء وصفات الذات الإلهيّة المقدّسة، وهم أسمى
آياته الكبرى، وكما إنّ لله تعالى بالأصالة، أعلى مراتب الظهور والشهود، فإنّ لأتمّ
مظاهر الذات المقدّسة، بالتبع، مرتبة أدنى من شهود الحقّ وأعلى ممّا سواه. وفي ضوء
ما سبق يعدّ أفضل طريق لمعرفة رسول الله وأئمّة الهدىعليهم السلام طريق القلب
والإدراك الشهوديّ للألوهيّة والنبوّة والإمامة.
1.أحد وكلاء الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
2. كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ج2 ص81.
3.أي: مات أبوه وهو حملٌ.
4.الكافي، الكليني، ج1 ص337.
5.(م.ن)، ص85.
6.التوحيد، الشيخ الصدوق، ص286.
7.يُستفاد تعبير "الآيات الآفاقية" و"الآيات الأنفسية" من قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53).
8.الكافي، (م.س)، ج1 ص85.
9.إقبال الأعمال، ابن طاووس، ص335.
10.بحار الأنوار، المجلسي، ج84 ص339.