مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من القلب إلى كل القلوب: القرآن الكريم هدىً وفرقان(*)


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


بسم الله الرحمن الرحيم ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ صدق الله العليّ العظيم (البقرة: 185-186).
إنّ شهر رمضان شهر الله، شهر ضيافة الله، شهر الصيام، والقيام، والجهاد، والقرآن، والدعاء، والعبادة، والإنابة والتوبة.

* حفظ حرمة الشهر الكريم
ومن وحي هذا الشهر الكريم والجليل أودّ أن أذكّر وأؤكّد على حفظ حرمة هذا الشهر المبارك، وحفظ حرمة الإسلام وحرمة المسلمين. وهذا الكلام لجميع الناس، سواء كان المخاطَب مسلماً أو لم يكن مسلماً، لأنّ من حقّ الناس بعضهم على بعض أن يحفظوا حُرُمات وكرامات بعضهم بعضاً. حتّى أولئك الذين يجدون أعذاراً لأنفسهم في إفطار أيّام هذا الشهر أو بعض أيامه [مَن هم مرضى أو على سفر] فإنّ عليهم أن لا يرتكبوا حراماً من خلال المجاهرة بالإفطار، لأنّ في هذا معصية لله وهَتكاً لحرمة هذا الشهر المبارك. والمسلمون هم، بالدرجة الأولى، مدعوّون إلى حفظ حرمة هذا الشهر، وكرامته، وهيبته، ومعنويّته... وهذه مسؤوليّة أخرى تضاف إلى واجب الصيام الذي أوجبه الله علينا، وكَتَبَه في هذا الشهر المبارك.
 

وفي مقدّمة حفظ حرمة هذا الشهر أن لا نحوّل أيّامه ولياليه إلى فرصة زمنيّة تُشغل باللهو، والطرب، والرقص، والفساد والغناء وما يُسمّى -زوراً وبهتاناً- بالخيم الرمضانيّة التي لا تمتّ إلى شهر رمضان بصلة، فإنّ في ذلك هتكاً لحرمة هذا الشهر... وألّا نحوّل شهر العبادة والطاعة، والإنابة، والتوبة، والاستغفار إلى شهر للذنوب والمعاصي والآثام وتجاوز حدود المولى عزّ وجلّ. وهذه مسؤوليّة الجميع.

إنّ علينا أن نستفيد من شهرنا هذا، أيامه، ولياليه، وساعاته، ودقائقه، وثوانيه حتّى آخر لحظة من لحظاته فيما يُقرّبنا إلى الله عزّ وجلّ، وفيما فيه خير دنيانا وخير آخرتنا وخير شعبنا وخير أمّتنا.

* شهر القرآن
أمّا لو عُدنا إلى الآيات الكريمة، فالآيات كما تؤكّد أنّ هذا الشهر هو شهر الصيام، تؤكّد أيضاً، وفي سياق الأمر الإلهيّ والآيات الإلهيّة، على وجوب الصوم في هذا الشهر؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (البقرة: 183). وتستمرّ الآيات في تأكيد أنّ القرآن أُنزل في هذا الشهر هدىً للناس، وبيّناتٍ من الهدى والفرقان وأنّ القرآن أُنزل في ليلة من ليالي هذا الشهر؛ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1).
فإذا كان هذا الشهر هو شهر القرآن، فعلينا، إذاً، أن نؤدّي للقرآن حقّه أولاً، وأن نعترف، في الوقت نفسه، بأنّ كتاب الله هذا هو كتابٌ مظلومٌ بيننا ومنّا، وبأنّ قرآننا هذا سيشكونا إلى ربّنا يوم القيامة لأنّنا هجرناه، وتركناه، وابتعدنا عنه.

* القرآن علاج كلّ أمراضنا
أيّها الإخوة والأخوات، يجب أن يكون هذا الشهر بالنسبة إلينا جميعاً مناسبة عظيمة، وفرصة حقيقيّة للتعرّف إلى كتاب الله والأُنس به، وتلاوته، وتدبّر آياته وفَهمه كمقدّمة للعمل بكلّ ما جاء فيه، إن شاء الله تعالى.
فهذا القرآن هو الكتاب الإلهيّ الخالد، وهو المصدّق لما بين يديه من كُتب السماء وصُحف الأنبياء. هذا القرآن هدى، ونور مبين، وتبيان لكلّ شيء، وبيّنات الهدى، وفرقان الحقّ والباطل. هذا القرآن شفاء الصدور، وربيع القلوب، كتاب الهداية، والصراط المستقيم. حالنا مع هذا القرآن، أيّها الإخوة والأخوات، كحال المرضى الذين يسكنون في جوار طبيب وفي بيوتهم الدواء، ولكنّهم هجروا الطبيب وهجروا الدواء وأصرّوا، بجهلهم وغفلتهم وسوء حالهم، على أن يبقوا في المرض، مرضى العقول والأرواح والأنفس الأمّارة بالسوء.

في هذا القرآن علاج كلّ أمراضنا وكلّ ما يمكن أن نتصوّره من سوءٍ فينا وكلّ ما يمكن أن نتصوّره من حاجة ومن سؤال. فهذا القرآن الإلهيّ فيه تبيان كلّ شيء، وهو الكتاب الخالد الأبديّ الذي سيرد الحوض مع عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.
لتكن في شهرنا هذا الأولويّة الأكيدة في أعمالنا العباديّة للقرآن، وأنا لا أقصد أن نغفل الأمور الأخرى ولكن لنُعطِ للقرآن أولويّته الكبيرة، لنتلُهْ ونقرأ آياته ونتأمّل فيها ونتدبّر عند تلاوته.

* تفكّروا عند تلاوته
إنّ تلاوة آية من آيات القرآن أو سورة من سُوره أو خَتمه في هذا الشهر يختلف عن أيّ تلاوة في أيّ زمن آخر... ليكن هذا أولويّتنا. ولا بدّ في ذلك من التلاوة المتأمّلة، والمتدبّرة، والهادئة، والمتّعظة، والمُعتبرة، والمستفيدة. وهذا ما أكّده القرآن نفسه وأكّده علينا رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. يجب أن تكون الأولويّة في أعمالنا الثقافيّة التركيز على القرآن، والتعريف به في الجلسات، والدروس، واللقاءات، والمحاضرات، والندوات، والخُطب، والمواعظ... وتعليم تجويده، وتفسير كلماته، وتركيز مفاهيمه. وعندما نستمع إلى القرآن من حناجر القرّاء بالصوت الجميل الحسن، وهو ما يحبّ الله تعالى، أن تُتلى آياته بصوتٍ جميلٍ وحسن، حين نستمع إلى الآيات والكلمات، أن نتوجّه بكلّ عقولنا وقلوبنا لهذا الصوت، ولما ينطق به هذا الصوت، لتستفيد القلوب وتزهر الروح ويعتبر العقل. فليكن استماعنا استماع المتدبّرين، المتأمّلين، المتفكّرين. وفي الوقت نفسه استماع الملتذّين بكلام الحبيب، المستأنسين بآياته التي تُرنَّم على آذاننا بأصوات جميلة وحسنة.

* عليكم بالقرآن عند الفتن
أختم بكلمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون شرحها مع الدعوة إلى التأمّل بها والاعتبار منها. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن في كلّ عصر، وفي كلّ مرحلة مبتلون بالفتن الملتبسة التي يضيع فيها الحقّ، ويشتبه فيها على كثير من الناس: "فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع وماحلٌ مُصدّق. مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار. وهو الدليل يدلّ على خير سبيل وهو كتاب تفصيل وبيانٍ وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تُحصى عجائبه ولا تُبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة"، إلى أن يقول: "فإنّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور يُحسن التخلّص ويُقلّ التربّص"(1). المتفكّر يمشي بالقرآن، هو النور الذي يمشي به في ظلمات الحياة. ولكن، الذي يتفكّر بالقرآن لا يكفي أن يتلوه دون أن يعمل به، وأيضاً لا يكفي أن نعمل به دون أن نتلوه. نحن بحاجة إلى كلا هذين الأمرين.


(*) كلمة ألقاها سماحته في مسجد الإمام الرضا عليه السلام، خلال افتتاح الأمسيات القرآنيّة لشهر رمضان المبارك من عام 1418هـ.
(1) الوافي، الكاشاني، ج9، ص1701

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع