مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الخميني الآخر

د. محمد محسن عليق(*)


"الخامنئي هو خمينيّ آخر/ ولايته ولاية حيدر"(1).
بيت من الشعر تحوّل إلى شعار جماهيريّ يردّده الكثير من الشباب الإيرانيّ في المناسبات واللقاءات الشعبيّة ويزيّنون به جدران غرفهم وصفحاتهم الشخصيّة في الفضاء الافتراضيّ. تشابُه أحرف الاسمين "خميني" و"خامنه اى" نفسه، قد أوحى لبعض الكتّاب والفنّانين وعشّاق الولاية بالتفاؤل والاستبشار بأن السيّد الخامنئي ما هو إلّا النسخة الشابة لـ"روح الله"، وقد تسلّم الولاية في غدير "قم"، في استرجاع مشابه لبيعة المسلمين لجدّه الأمير عليه السلام في غدير "خمّ"(2).

*شبُهات وتساؤلات
وبعيداً عن هذه الأدبيّات الجميلة، يطرح آخرون تساؤلات وشبهات -الأسباب مختلفة؛ من عشق الإمام الخميني والحنين إلى وهْجه المعنويّ وانتصارات ثورته وفرادة شخصيّته، إلى عدم الاطّلاع على حقائق الواقع الحاليّ للثورة، وقيادتها وصولاً إلى المزايدة والتشكيك لأسباب سياسيّة ونفسيّة وكذلك المتأثّرين بحملات الإعلام الغربيّ أو المتغرّب و...- ويترحّمون على أيّام الإمام "الذي لو كان حالياً لفعل كذا ولما فعل كذا!" محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر التفكيك والتشكيك والمقارنة بشكل مبهم بين "زمن الإمام" و"زمن السيّد الخامنئي" دون بحث ومطالعة موضوعيّة، ما يؤدّي عملياً إلى ظلم الاثنين معاً! والتشويش قد يصل إلى حدّ التشويه، غير المتعمّد غالباً.

*عصر الخميني قدس سره مستمرّ وخالد
لن ندخل هنا في المقارنة، فمن نافل القول إنّ البحث العلميّ والتاريخيّ وحتّى السياسيّ لا ينسجم منهجياً مع افتراضات كهذه، وإنّما نستعير "من الإمام الخامنئي قالب نظريّته الإبداعية حول المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام"؛ حيث طرح في تحليله الاجتماعيّ - السياسيّ لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والأئمة المعصومين عليهم السلام نظريّة "إنسان بعمر 250 سنة"(3) وخلاصتها أنّ فَهم حركة المعصومين عليهم السلام إنّما تتّضح إنْ تصوّرناهم إنساناً واحداً ذا هدف واحد ومنطلق واحد، من الرسول الأعظم حتّى الإمام المهدي عليهم السلام وعلى مرّ 250 سنة هي مجموع سنيّ أعمارهم الشريفة إلى ما قبل غيبة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

هذا التمثيل يساعدنا بشكل كبير على فَهم الحركة التكامليّة للإمام الخامنئي بعد رحيل "الإمام العظيم"؛ خاصّة أنّ سماحة السيد القائد قد أعلن بوضوح، منذ الأيام الأولى لتولّيه "ولاية الأمر وإمامة الأمّة في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف"(4) أنّ "هذا العصر هو عصر الإمام الخميني وهو مستمرّ وخالد"، و"أنّ نهجَه نهجُنا وهدفَه هدفُنا" و"أصول إمامنا العظيم هي خارطة طريقنا"(5). فكان الإمام القائد ولا يزال ساعياً في شرح وتبيين مباني وأصول نهج الإمام الخمينيّ وحفظها من محاولات التحريف المستمرّة منذ بدايات انتصار الثورة وفي حياة الإمام الخميني قدس سره(6).

الفكرة الأساس، هي أنّ الفَهم الدقيق لحركة وبيانات ونمط القائد الخامنئي في إدارة الثورة وقيادة المؤمنين عالمياً بولاية الفقيه وكذلك إبداعاته الفكريّة والعلميّة والعمليّة، إنّما يتّضح ويتيسّر إنْ نظرنا إلى السيد الخامنئي كإمام خميني آخر؛ يستكمل نهضة الإمام الخميني قدس سره ويبني مداميك "الحضارة الإسلامية الجديدة"(7) فوق الأساس المتين الذي وضعه الإمام الخميني قدس سره في قيادته للشعب الإيرانيّ وأنصار الولاية في العالم. وفي المقابل، فإنّ شخصيّة الإمام الخميني قدس سره ونهجه وأصوله الحقيقيّة تتمثّل حاليّاً في قراءة الإمام الخامنئيّ وتبيينه النظريّ والعمليّ واستكماله للمسيرة الخمينيّة.

*نهضة البرمجيات مع الإمام القائد
يطرح الإمام الخامنئي، ومنذ بدايات ولايته، فكرة محورية؛ تتلخص بأنّ الإمام الخميني قدس سره قد أسّس في حياته المباركة ما يمكن تسميته بالأقسام الصلبة (hardware) لنظام الثورة الإسلاميّة؛ بحيث وضع الأسس الفكريّة للثورة وبنى النظام الإسلاميّ بدستوره المميّز ومؤسّساته وحدّد الأهداف والاستراتيجيات والأصول الأساس للحركة، والمطلوب منّا أن نقوم بـ"نهضة البرمجيات" (software revolution)؛ أي الخطط والبرامج والسياسات والأدوات والأساليب المثلى للوصول إلى تلك الأهداف للتقدّم ومعالجة الآفات والتحدّيات والعدوان وفق المباني والأصول الصلبة. فنلاحظ مثلاً:

1- أنّ السيد القائد يستكمل الجهد العلميّ والتراث الفكريّ للإمام ويبني عليه دون أن يكرّر العمل.

2- أنّ الإمام الخميني قد وضع منهجاً أخلاقيّاً عرفانيّاً في كتبه وبياناته وحركته ورسائله (كتهذيب النفس والسير والسلوك الفردي والجمعي والولاية والإنسان الكامل)، فلم يكرّر القائد الجهد، بل بنى على هذا المدماك المتين عدداً من المسارات والبرامج العامّة (كمراحل الثورة الإسلامية الخمسة وأنموذج التقدّم الإسلامي - الإيراني وصولاً إلى هندسة الثقافة والنظام الاجتماعيّ، وبناء الحضارة الجديدة، والجبهة الثقافيّة، ومقاومة الحرب الناعمة... ونمط الحياة الطيبة ونموذج الأسرة والمرأة المسلمة...)(8) وقاد النظام والشعب والنخب في هذا المسارات.

3- وفي هذا المسار أشرف الإمام الخامنئي دام ظله وتابع وأدار عمليّة التخطيط الاستراتيجيّ لميثاق الأفق العشرينيّ "أفق 1404هـ.ش". وهو المظلّة الكبرى للمسار العلميّ والاقتصاديّ والسياسيّ، لتصبح الجمهوريّة الإسلاميّة البلد الأقوى والأكثر تقدّماً في منطقة غرب آسيا -رافضاً مصطلح الشرق الأوسط- وآسيا الوسطى والقوقاز، والذي يشكّل المرجعيّة لكلّ سياسات التقدّم والتخطيط الاستراتيجيّ (الاقتصاد المقاوم، استراتيجيات السكّان والإنجاب، المياه، النفط، السياسات العامّة للأسرة، فلسفة التربية والتعليم، إنتاج العلوم والجامعة الإسلامية، التحوّل في العلوم الإنسانية، الطاقة النووية، الهندسة الثقافيّة، البيئة والطبيعة و...)(9) والتي تنتهي في العام 2025م.

*الجهاد الكبير
إذا كان الإمام الخميني قدس سره قد نهض، "مؤمناً بالله وبشعبه وبنفسه"(10) ووضع الفلسفة الوجوديّة لهذه الثورة، والنظام الإسلاميّ، والحركة العالمية للمسلمين والمستضعفين، فكان على المستوى الفكريّ، وكما عبّر القائد: "إنّ الإمام (رضوان الله عليه) هو عصارة وخلاصة مدرسة صدر المتألهين الشيرازي؛ ليس في فلسفته فقط وإنّما في عرفانه أيضاً"(11)، فإنّ الخمينيّ الآخر، قد تصدّى لمتابعة الاجتهاد لصياغة فلسفات مضافة من تلك الحكمة المتعالية وإنزالها إلى ميدان الحياة عملياً لتقديم النموذج الحضاريّ وحلّ مشكلات المجتمع الإسلاميّ بنمط مغاير للتجربة الغربيّة. وهنا تبرز أهميّة طرحه وإشرافه على التحوّل البنيويّ في التربية والتعليم، كأكبر عمليّة اجتهاد واستنباط جمعيّ عرفه العلماء المسلمون على مرّ التاريخ، حيث:

أ- تمّت صياغة وإنتاج فلسفة جديدة للتربية الإسلامية.

ب- تنظيره وإدارته لإعداد مباني الاقتصاد المقاوم وفلسفة الفنّ وفلسفة السياسة وفلسفة العلم ونموذج "التقدم" المواجه لنموذج "التنمية" الغربيّ وغيرها من المسارات الفكريّة الكبرى المستندة إلى قوّة الفكر الإسلاميّ وحيويّته وطاقاته الكامنة، حيث إنّ "الفلسفة الإسلامية هي الفقه الأكبر، من وحدة الوجود ومن مباني الملّا صدرا (صدر المتألهين الشيرازي) يمكن بناء نظام سياسي واجتماعيّ واقتصاديّ"(12).

ج- وإذا كان "الخميني الأوّل" قد ثبّت قواعد العرفان النظريّ في كتبه وخطبه، وأخرجها إلى ساحة التحدّي الحضاريّ لبناء المجتمع العارف بالله، فإنّ "الخميني الثاني" دعا إلى العرفان العملي: "ينبغي لنا ألّا ننظر للعرفان كبقية العلوم؛ بمعنى أنّه ألفاظ وتعابير ومعادلات ذهنيّة،... العرفان النظريّ يجب أن يؤدّي إلى العرفان العمليّ؛ أي يؤدّي إلى السلوك، التوجيه وتربية الطالب، ليكون سالكاً"(13).

د- رسّخ الإمام روح الله نهج "الجهاد الأكبر" لتهذيب النفس و"الجهاد الأصغر" في مواجهة الظالمين والمستكبرين، وبين هذا وذاك يطلق السيد القائد مفهوم "الجهاد الكبير" كتكليف عام وأولويّة بالمواجهة الثقافيّة والسياسيّة وعدم التبعيّة للأعداء، وخاصة أمريكا وثقافتها الغربيّة المنحطّة(14).

*شهادة أهل الفضل

يقول آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي "الحقيقة أنّه في زمان حياة الإمام (رحمة الله عليه) كلّما كانت تراودني فكرة: ما الذي سيحصل بعد رحيل الإمام؟ ينتابني الاضطراب وأُحاول أن أصرف هذه الفكرة عن مخيّلتي ولا أعود إلى التفكير فيها بتاتاً... لكنْ عندما تسلّم قائد الثورة المعظّم (دامت بركاته) مقاليد القيادة.. بدا لنا وكأنّ روح الإمام قدس سره قد حلّت في بدنه، حتّى إنّ تلك العظمة عينها، وبخصوصيّات ممتازة أيضاً، قد ظهرت في شخصيّته. في الحقيقة لا يسعني أن أُقارن كلّ سمات الإمام بسمات شخصيّة قائد الثورة لأقول إنّهما متساويان في قسم منها، أو إنّ أحدهما يسمو على الآخر في قسمها الآخر... أولئك الذين يرون القائد عن كثب ويستطيعون مقارنته بأقرانه يدركون أنّ الفرق بينه وبين الآخرين هو كالاختلاف بين السماء والأرض"(15).

إنّنا نحيا في العصر الخمينيّ في نور "شمسه الساطعة بالضياء" والحمد لله، فماذا نحن فاعلون بهذه النعمة الكبرى؟!


(*) أستاذ التربية في الجامعة اللبنانية وباحث في فكر الإمام الخامنئي دام ظله.
1- ترجمة الشعر الفارسي:
"خامنه اى خمينى ديگر است
ولايتش ولايت حيدر است".
2- تشبيه استعملته بعض وسائل الإعلام في الزيارة التاريخية والاستقبال الحاشد للإمام الخامنئي في مدينة قم المقدسة، في العام 2010م.
3- كتاب "إنسان بعمر 250 سنة"، محاضرات السيد علي الخامنئي دام ظله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
4- التوصيف الرسمي والقانوني كما ورد في "دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، نشر مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، المادة الخامسة.
5- كتاب "وديعة الله"، إعداد ونشر: مركز الرضوان للتأليف والنشر، ص9.
6- خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى 26 لرحيل الإمام الخميني قدس سره، مجلة "مشكاة النور"، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، العدد69.
7- "الوليّ المجدّد"، الشيخ نعيم قاسم.
8- "الخامنئي القائد"، السيد عبّاس نور الدين، نشر مركز باء.
9- "الولي المجدد"، (م.س).
10- "وديعة الله"، (م.س)، ص 67-69.
11- لقاء الإمام الخامنئي مع أساتذة وفضلاء ومحققي الحوزات العلمية في 8/9/1386هـ.ش (2007م).
12- لقاء الإمام الخامنئي مع جمع من فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة 29/10/1382هـ.ش (2003م).
13- لقاء الإمام الخامنئي مع أعضاء مجمع الحكمة في 23/11/1391هـ.ش (2012م).
14- في عدد من خطابات الإمام الخامنئي في العام الحالي ومنها في 26/5/2016م - وفي 23/5/2016م.
15- مقابلة لمجلة "سخن برتو" مع آية الله الشيخ مصباح اليزدي، ترجمة القسم العربي في موقع سماحته:
http://www.mesbahyazdi.org/arabic

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع