الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها أذكار | شهر رمضان المبارك آخر الكلام | الأوراق المغلّفة

الأطروحة الخامنئية: المشروع الثقافيّ

الشيخ شفيق جرادي(*)


تحتلّ الثقافة أهمّية كبيرة في زماننا وفي المرحلة التي نعيشها، وينبغي الاهتمام الجادّ بالعمل الثقافيّ. طبعاً، العمل الثقافيّ من جملة الأعمال المعقّدة، حيث يجب على المتصدّين لقضاياه بذل الجهود للتقدّم في جانبين: الجانب الأول هو نشر الثقافة كمّيّاً داخل نفوس الناس جمعاً وفرادى [...] الجانب الثاني هو عبارة عن الانتشار والتوسّع الكيفيين للثقافة؛ أي إنتاج الثقافة وتفجّر ينابيعها في القلوب والأرواح والاستعدادات. الإمام الخامنئي دام ظله(1).

*الثقافة والحراك الفكريّ
ليست الثقافة والاهتمامات الفكريّة هي ما يحصل للنفس من مزاج ورغبة، فتميل إليه عن غير وعي وكيفما اتّفق، بل هي تلك المعرفة التي اختزنتها النفس وحفظتها، من حيث القيم والأفكار والمعتقدات ورمزيّات قيادة الحياة، بعد أن غابت عن سطح الوعي الكثير من معطيات المعلومات ووجوه القضايا والأحداث.

ثمّ وفي أوقات من إشراق العقل والروح عند النفس تتأتّى منظومات من تحليل الوقائع الثقافيّة في ما تستسرّه من أسئلة حول مبادئ وجودها وتولّدها، ومقاصد مساراتها وتحوّلاتها، وموقعها من جملة ما قيل ويقال، فتنخرط النزعة الثقافيّة في تكامليّات من خطوات الحراك الفكريّ، لتولِّد أفكاراً ومنظومات، ولتعلن عن ولادة مفكّرين.

*فرْق بين الثقافة والتراث
فمن رحِم الدين والعقيدة والقيم تولد الثقافات، ومن رحم الثقافات تولد الأفكار والمنظومات الفكريّة. لكن ما ينبغي التنبّه إليه هو أنّ الكلام في العقيدة والقيم والدين كمولّد للثقافة، لا يصحّ إذا فصلناه عن عامل اللقاء بالزمن والجغرافيا بمعناهما الممتدّ لكل تاريخ، وبمعناهما المرتبط باللّحظة وأُفق المعاصرة؛ لأنّ التجريد من دون الزمن هو تراث ولا صلة له بالثقافة وبمعناها الذي يخترق الوجدان والسلوك الإنسانيّ.

وعليه، يمكن أن نصنّف أنواع المفكّرين إلى أقسام:
1- مفكّرون ينخرطون في مطاوي الكلّيات الكبرى لأمور القيم والمبادئ، وهؤلاء ستغلب عليهم صفة التخصّصيّة التي قد تحرمهم الكثير من تأثيرات الفكر العملانيّ والحيويّ.

2- مفكّرون قادرون على استطلاع المنظومات وبمحاملها المعرفيّة. وهؤلاء مفكّرون يستطلعون المقارنة بين النظم الفكريّة والمعرفيّة، ويقفون عند حدود ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"المذهبيّة الفكريّة"، التي تتفاعل مع المفاهيم ولا تنساب لحراك الواقع والحياة. ولا شكّ في أنّ أغلب مفكّرينا في الوسط الفكريّ الإسلاميّ هم من هذا القسم.

3- مفكّرون عالمون بقضايا التراث والعقل المذهبيّ - المعرفيّ بالشكل الذي بينّاه، لكنهم لا يسبحون في هذا الغمار بنحوٍ يقتصر على التخصّص، بل يستفيدون منه لملاقاة وقائع الواقع والحياة. ومن هؤلاء من يصلح ليمثِّل اتجاهاً أيديولوجيّاً في التنظير، ومنهم من يصلح ليمثِّل مشروعاً نقديّاً هادفاً في الشأن الإنسانيّ، ومنهم من يمثّل المُلهم والمؤسّس للفكر في مسارات المجتمع والحياة، ونأخذ لذلك نموذج الإمام الخميني قدس سره. كما إنّ منهم من يمثّل المفكّر الحضاري الساعي لبناء مرتكزات حضاريّة جديدة على أصول من المعتقد والقيم والثقافة، وهذا ما نجده في المشروع الفكريّ والثقافي للإمام الخامنئي دام ظله.

*خصائص الفكر عند الإمام الخامنئي دام ظله
إنّ مسألة الأدب والثقافة في كل بلد هي مسألة أساسيّة؛ [...] ونحن عندما نتحدّث عن الثقافة، فإننا نتحدّث بالدرجة الأولى عن الشعر، والقصة، والكتابة، والأنواع الفنيّة المختلفة، [...] إذا كان من المقرّر إيجاد تحوّل في بلد ما، فالثقافة هي مفتاح ذلك. وإذا أرادت أمّة، على سبيل الفرض، التخلّص من المحتلّ، تبرز الثقافة، قبل الثروة والقدرات الصناعيّة والاحتياطات الباطنيّة، في العمل على التحرّر من احتلال الأجانب. الإمام الخامنئي دام ظله(2).

لقد أسهب كثيرون في ذكر الاهتمامات الثقافيّة والفكريّة للإمام الخامنئي دام ظله، وممّا ورد في هذا الجانب:

أ- الاهتمامات الفنيّة عند سماحته؛ إذ إن الذوق الفنيّ العام، والذوق الفنيّ الدينيّ هو من موارد الاطّلاع النقدي لسماحة الإمام الخامنئي، وعندما أقول النقديّ فلأشير إلى البعد الفكريّ في هذا الحقل الثقافيّ (الفن).
ومن المعلوم أن موقعيّة الفقيه - الوليّ، المعنيّ بإدارة شؤون الدولة والمجتمع في هذا العالم المعاصر تعطي الخبرة النقديّة لميدان الفن علامة وميزة إضافيّة، تسمح للفقيه ولموقعيّة القائد بترشيد خيارات البيئة المجتمعيّة الإسلاميّة وحفظها بالمقدار اللازم من صنوف الغزو الثقافيّ، أو ما يصطلح عليه مؤخّراً بـ"الحرب الناعمة". لكن بودّي هنا أن أشير إلى أمرين اثنين في هذا المجال:

الأمر الأوّل: إنّ صنوف الفنّ التي اطّلع عليها الإمام الخامنئي كالأدب، والشعر، والقصة، واللحن... وغير ذلك، كان يستطلعها من منظور نقديّ حضاريّ؛ لأنّ أفق المشروع الفكريّ الذي لطالما سعى لتلمّسه إنّما يحمل هذا الأفق الحضاريّ في الغاية والمعالجة.

الأمر الثاني: لقد سمحت هذه المعرفة للإمام الخامنئي، الفقيه، أن يدلي في هذه المجالات بآرائه الفقهيّة والولائيّة على أُسس وأصول موضوعيّة لا مزاجيّة فيها.

ب- الثقافة الحركيّة لتجارب فكريّة نهضويّة وتعبويّة منذ عصر النهضة ورجالاتها الكبار أمثال السيد "جمال الدين الأسد آبادي"، مروراً بـ"حسن البنّا" و"سيد قطب"، وصولاً لآخر ما أنتجته ثقافات ثوريّة وأيديولوجيّة عند "شريعتي" و"بازركان" وغيرهما.
وهو ما سمح له بمواكبة المسار العملانيّ للثقافة الإسلاميّة بتعدّد صنوفها وألوانها، كما سمح له بالاستفادة من مناهجها النقديّة وروحها الحيويّة في بناء اقتراحاته وتنظيراته لمسار الإسلام المحمّديّ الأصيل في مقاومته وممانعته وثوريّته البنّاءة والحضاريّة.

ج- المعرفة العميقة بأفق المنظومات الفكريّة الغربيّة، العلمانيّة منها أو الإلحاديّة، كما المنظومات الدينيّة في الأفق الحضاريّ العالميّ المتنوّع.
وهذا كان مدخل الإمام الخامنئي دام ظله لتقديم بناءات حضاريّة للعالميّة الدينيّة وموقع المشروع الإسلامي منها. فبقليل من التأمّل، يمكن لنا أن نلحظ حجم الحضور الاستثنائي للمسألة الدينيّة في الواقع العالميّ المعاصر لهذا القرن، كما يمكننا أن نتلمّس الثغرة الكبرى لحضور الأديان، وهي عدم استقلاليتها بتقديم رؤاها في المعالجات الإنسانيّة الكبرى. ولعلّ هذه الفرادة في معالجة الدين لشؤون الحياة الإنسانيّة العامّة إنّما اختُصّ بها الإسلام بالقيادة الفكريّة التي كمّلتها أطروحة ولاية الفقيه التي يمثّل الإمام الخامنئي رمزها الأكبر والأعلى.

بناءً عليه، فإنّ على الأجيال الشابة وتلك الطامحة نحو التغييرات المنهجيّة برؤىً من الوعي، أن تتطلّع اليوم لموقع الإمام الخامنئي وما يقدّمه بشكل يسمح لتحويل الأطروحة الخامنئيّة إلى برنامج عملي في الأوساط والجماعات المتطلّعة نحو بناء الحياة على أُسس من الوعي الحضاريّ - الإيمانيّ.

أما المجتمع الدينيّ، فلديه طموح ثقافيّ؛ لأنّ أهداف الدين هي أهداف ثقافيّة ومعنويّة تتعلّق بالروح والفكر والقلب. لذلك، لا يمكن أن يكون الفرد المتديّن أو الجماعة المتديّنة خاليةً من الآمال والقيم والطموحات الثقافيّة. إذاً، المجتمع الدينيّ هو ثقافيّ بالطبع وبالقوة، ولكنّه بفعليّته ليس كذلك؛ يعني فيه نقص من ناحية الرؤى والبصائر والمعارف والإجراءات الثقافية. الإمام الخامئني دام ظله(3).


(*) رئيس معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة، بيروت - لبنان.
1- الهواجس الثقافية عند الإمام الخامنئي، إعداد وتدوين مركز صهبا، ترجمة: علي الحاج حسن، ص97 و98.
2- (م.ن)، ص92.
3- (م.ن)، ص98.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع