نلا الزين
المجتمع يشبه القافلة التي تتميز بمبدأ للحركة ومقصد معين وطريق معلوم.. وكل فردٍ من أعضاء القافلة يختار مبدأه ومقصده وطريقة مسيره، قد يختار مقدمة القافلة أو مؤخرتها، يستطيع أن يسرع في مشيه وسيره أو يبطىء، يستطيع أن يكون راكباً أو راجلاً...
من الواضح أنَّ أفراد المجتمع الواحد يختلفون فيما بينهم من حيث الوضع الاجتماعي والمهمة الاجتماعية. بعض الناس يصوغون مجتمعهم حسب ما يحبون أو يأملون والبعض الآخر يصوغه حسب ما تقتضيه التحولات والأوضاع، الموجودة. ولكن الركائز الاجتماعية من المواضيع الأساسية التي تأخذ حيزاً أساسياً ومهماً من تعاطي الفرد مع مجتمعه. والركيزة تشكل وظيفة ومهمة حيوية تظهر بصورة نشاطات للوصول إلى هدفٍ محدد، والبعض يعرفها بأنَّها مفاهيم تحكي الشؤون المهمة التي لا يمكن التخلص منها في الحياة الاجتماعية للإنسان، كالعائلة الاقتصاد التعليم... فإنَّ تقسيم الركائز وتعيين درجة أهمية كل واحدة منها ناظرٌ إلى مضمار رفع الحوائج المادية والروحية معاً.
هذه الركائز تؤثر في بعضها البعض بنحوٍ أو بآخر فأي تحول يطرأ على إحداها يؤدي إلى التحول في سائر الركائز الاجتماعية الأخرى قلَّ أم كثر. مثلاً تأثير العائلة في التربية والتعليم واضح عندما ندرس عوامل انحراف أو انضباط هذا التلميذ فلا بدَّ من العودة إلى أسرته وبيئته الداخلية والعكس صحيح. كذلك فتأثير التحولات الاقتصادية ينعكس على سائر الركائز الاجتماعية الأخرى، فدخل الأفراد يؤثر في طريقة عيشهم وتعليمهم وزواجهم وسكنهم و... والتحول في ركيزة التربية والتعليم قد يحول سلوك وهوية وآراء الأفراد. إن التحول الاجتماعي إمَّا أن يكون هادفاً إرادياً أو ليس كذلك فهو ضروري أو فجائي الحدوث أو غير مقصود. إذا أردنا التحدث عن مسألة أساسية تندرج تحت عنوان التنسيق والانسجام بين هذه الركائز الاجتماعية فإننا سنجد تعارضاً في بعض المجتمعات في هيكل هذه الركائز، مثلاً في المجتمعات الغربية يشيعون في ركيزة التعليم مفاهيم معينة كالمحبة بينما هم في الركيزة الاقتصادية يشجعون على المنافسة الخالية من الرحمة لتحصيل المال وهذا يحدث أزمة وشرخاً ذاتياً واجتماعياً.
هذه الركائز ذات ارتباطات وثيقة وعلاقات عميقة والمفاسد التي تطرأ على أي واحدة منها سوف تمتد إلى سائر الركائز. والذين يفكرون بهذه المفاسد وتأثيرها على الناس والمجتمع بشكل عام هم قليلون، لأنهم ينظرون إلى المصالح الاجتماعية المعنوية والخلقية ويمعنون النظر كذلك في النقائص المادية يضعون أيديهم على نقاط الضعف بشقيه المادي والمعنوي من هنا نحن ننظر إلى الدين (الذي يُعتبر ركيزةً أساسية غُيِّبَتْ عن كثيرٍ من المجتمعات) باعتباره يهدف إلى إصلاح جميع شؤون الناس فردية كانت أم اجتماعية مادية أم معنوية، وتتكامل عنده الركائز من حيث الغاية والوسيلة والمفاهيم السائدة، كل ذلك من أجل تهذيب نفوس الناس لينعكس ذلك على أدائهم وعلاقاتهم وحياتهم فيتكاملون باختيارهم. إنَّ تصور المجتمع المتكامل والمثالي قد جذب العديد من المفكرين والمجموعات ومنهم أفلاطون... ونذكر على سبيل المثال الفارابي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة".
البعض من المفكرين الاجتماعيين يعدون الحديث عن المجتمع المثالي وتقديم مخطط عنه لوناً من ألوان الخيال والأحلام لأنها سوف لن تتحقق في الخارج كما تصورها واضعوها وملاحظة أنَّ أكثر الأعمال والمواضيع الاجتماعية لا تنتهي إلى النتيجة المتوقعة بصورةٍ دقيقة. الواقع أنَّ هذا المجتمع الفاضل أو المثالي أو المتكامل والمميز مادياً ومعنوياً، بركائزه الأساسية يمكن أن يتحقق أو أن يسير بإتجاه النتيجة المرسومة شرط أن لا نكتفي بتصويره وإنما بوضع السبل والطرق التي تؤدي إليه دون أن نضع عالم المستقبل على عالم الحاضر بلا سبيل ولا واسطة وبذلك يمكن أن تتحول المجتمعات أو المدن، عبر مراحل متدرجة وتحريك الإرادات والرغبة في التغيير وأن تكون المخططات قابلة للتنفيذ فذلك لونٌ من ألوان البناء وليس الهدم. وبالعودة إلى الرؤية الإسلامية لهذا المجتمع فهي واقعية، ومقرونة بتعيين الطريق والسبيل من خلال المفاهيم التي تجد لها مصداقاً في كل مرتبة من مراتبها في جماعة من الناس، فالرؤية هنا رؤية كونية فالإنسان الذي يتمتع بأربعة أنواع من العلاقة:
- علاقته باللَّه خالقه.
- علاقته بنفسه.
- علاقته بالطبيعة.
- وعلاقته بالناس الآخرين.
هذا الإنسان وبهذه العلاقات الأربع ينطلق اجتماعياً ليلتقي عبر خطوط وقنوات الاتصال الصحيحة المرسومة لهذه الانطلاقة والعلاقات، بجميع الأشياء من حوله المخلوقين من قبل اللَّه عزّ وجلّ. فهو يعتقد على مستوى نفسه أيضاً (بدنه روحه) أنها أمانة إلهية ولا بدَّ من التعامل معها على هذا الأساس والعمل لصالحها ووفقاً لإرادة من ائتمنه كذلك بالنسبة إلى الطبيعة فهي من النعم الإلهية يحول دون تضييعها أو إفسادها. قال تعالى ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ (هود: 61). كما أنَّه يتعامل مع غيره من البشر بمقتضى القسط والعدل يعاملهم كما يحب أن يعاملوه فيلاحظ الفرد صلاحياته، تكاليفه، حقوقه واجباته فلا يقترب من الظلم وفقاً لهذه القاعدة قال تعالى ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنعام: 47). كذلك لا ننسى أنَّ هذا المجتمع يقوي أواصر أبنائه وأفراده من خلال هذه العلاقات المنسجمة والقائمة على هذه الرؤى والمفاهيم الإسلامية، كما أنَّه يركز على نواة اجتماعية أساسية تقوي أواصر الأفراد وتربيهم على هذه النظم والتعاليم وهي العائلة أو الأسرة فهي من شأنها المساهمة في تحقيق الأهداف المرجوة لهذا المجتمع.
بدوره هذا المجتمع قائم على ركائز أساسية ذكرناها سابقاً الاقتصاد الحقوق، السياسة التربية العلم عندما تتحقق وتتكامل فيما بينها يصبح الأفراد متعلمين، عدولاً مؤمنين يعيشون القول والفعل، مادياً ومعنوياً. ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، انطلقوا من القول إلى التطبيق والعمل والسلوك. هذا هو الهدف من خلق الإنسان، أن يتكامل بواسطة أفعاله الاختيارية وذلك قابل للتحصيل في الحياة الفردية والاجتماعية معاً. خاصة على مستوى العلاقات والارتباطات الاجتماعية ولا يعود الفرد ينظر فقط إلى شخصه وحاجاته فحسب بل إلى الحياة من حوله، وإلى الناس والمخلوقات لأنهم مخلوقون مثله ولأنَّ الناس عباد اللَّه ولا يظلم بعضهم بعضاً فميزان العدل من العدل الإلهي واضح وجلي ويعرف كل فردٍ موردَه وهنا نستحضر بعض الآيات القرآنية المباركة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾(الكهف: 28) وفي آية أخرى ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطور: 48). وأخيراً نورد بعض سمات وصفات تحكي المجتمع الأرقى والأفضل إنسانياً ومن شأنها لمّ الشمل الإنساني وتحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار الفردي منها:
التسامح والرحمة ففي القرآن جاء ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159). التواضع قال تعالى ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ (الإسراء: 37).
حب الخير للغير قال تعالى يصف النبي صلى الله عليه وآله ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128).
الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾.
الاستقامة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾(هود: 112).
الإحسان: جاء في كتاب اللَّه العزيز ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ (المؤمنون: 95).
الوحدة والتوحد على الأهداف والمفاهيم التي فيها خير البشر والمجتمعات وقد ورد في سورة آل عمران، الآية: 105 قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
العدالة والتقوى وهذا هو المراد. إنها عناوين ترتكز عليها مجتمعات تريد أن تصل إلى ذلك الرقي وتلك المثالية القابلة للتطبيق والقاعدة للفرد والمجتمع. ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108). والحمد للَّه ربَّ العالمين.