ايفا علوية ناصر الدين
يتمحور الحديث عن حياة الشيخ الكاشي وسيرته حول الإطار الذي ارتسمت فيه شخصيته وانطبع فيه اسمه حيث لا يمكن الحديث عنه إلا قارئاً لمجالس العزاء وخطيباً نذر حياته للإمام الحسين عليه السلام وقضاها في خدمته معتزاً مفتخراً أن كل وجوده وكيانه هو ببركة سيد الشهداء عليه السلام ورعايته التي حلّت به منذ الطفولة إلى أن أصبح من أعلام المنبر الحسيني. ولد الشيخ عبد الوهاب الكاشي سنة 1924م.
في مدينة البصرة التي كان قد هاجر إليها والده من النجف الأشرف بسبب الاحتلال الإنكليزي، والنجف الأشرف كان قد استقر فيها جده ملا محمد قادماً من مدينة كاشان الإيرانية لطلب العلم. وفي هذه الأسرة التي تنعم بأجواء الإيمان نشأ الشيخ الكاشي محباً لأهل البيت عليهم السلام متعلقاً بالإمام الحسين عليه السلام الذي كانت تربطه به علاقة خاصة سببها قصة حصلت في طفولته وكانت أساساً يحدد طريقه فيما بعد.
* حب الحسين منذ الطفولة
في سن مبكرة جداً تفتحت عيناه على هذه القصة التي زرعت في قلبه حرارة حملها طيلة حياته متذكراً تبني الإمام الحسين عليه السلام له عندما كان طفلاً صغيراً في الثالثة من عمره حين أصابه مرض شديد وضعه على حافة الموت وبعد فقدان الأمل من شفائه ونجاته ما كان من والدته إلا الصعود إلى سطح الدار والتوجه ناحية كربلاء وحضرة سيد الشهداء عليه السلام مستغيثة متوسلة طالبة شفاء ولدها التي نذرته خطيباً لخدمة منابر سيد الشهداء عليه السلام ومنذ ذلك الوقت الذي وجدته فيه أمه سليماً معافى حين رجعت إلى الدار بدأت علاقته بالإمام الحسين عليه السلام تنمو وتكبر إلى أن صارت رفيقة دربه في الطريق الذي اختار السير فيه.
* خطيب المنبر الحسيني
لقد كانت محبته العميقة للحسين وأهل البيت عليهم السلام دافعاً كبيراً للتوجه إلى دراسة العلوم الإسلامية فالتحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف فدرس اللغة العربية والمنطق والفقه وعلم الأصول على كبار علمائها أما فن الخطابة التي كان أستاذه فيها عمه الشيخ محمد الكاشي فقد تعمق فيها وتدرج إلى أن اكتملت ملكاته الخطابية وأصبح من أساتذة المنبر وأكابر الخطباء حيث تخرجت على يديه مجموعة كبيرة من الخطباء وقراء المجالس الحسينية في العراق وكذلك أيضاً في لبنان بعدما أبعدته السلطات العراقية في أوائل السبعينات فقصد لبنان لأنه رأى أن فيه حاجة ملّحة لوجوده واستقر فيه لكن ذلك لم يمنعه من الذهاب لزيارة بعض البلدان كالبحرين والكويت ودبي وجنوب إيران وأفريقيا وغيرها حيث لفت الأنظار بأسلوبه الخطابي ومنهجه في قراءة العزاء الذي شكّل مدرسة عزائية بحد ذاتها.
* مدرسة عزائية متميزة
هذه المدرسة كانت مميزاتها عديدة فقد كان أول ما تميز به الشيخ الكاشي في قراءته لمجالس العزاء الحسينية صوته الشجي ونبراته التي تتموج بين الحماسة والهدوء متقلبة من لهجة خطابية إلى صوت رقيق عذب في تلاوته لمشهد عزائي ولذلك فقد اشتهر بقدرته على الترنم بصوتين ساحرين والتحكم بهما كيفما يريد. وإلى جانب ذلك فقد تميز الشيخ الكاشي بقوة حافظته التي ساعدته كثيراً في استحضار كل ما يناسب قراءة المجالس وخصوصاً الأبيات الشعرية التي كان يفتتح بها تلاوته. وكان أبرز ما تميزت به مدرسته المنهجية الخاصة التي اتبعها في قراءته للمجالس الحسينية فقد كان يفضلّ أن يطرح إشكالاً في السيرة الحسينية ثم يجيب عنه وكذلك فقد تميز بأسلوبه الخطابي البارع الذي يخترق الآذان بقوة تأثيره هذا بالإضافة إلى ما تمتع به من قدرة كبيرة على تجسيد الواقع وقوة على تصوير الأحداث بحيث يشعر المستمع وكأنه موجود في ساحة المعركة فيواكب الأحداث عبر الصور والمشاهد التي تتكون في مخيلته عند الاستماع لموقف أو حادثة يرويها الشيخ في أحد مجالسه القيمة.
* حضور الحسين عليه السلام معه
ويمكن القول أيضاً أن العلاقة الوطيدة التي ربطته بالإمام الحسين عليه السلام والتي تجلت في حبه الكبير له كانت تعتبر صفة بارزة اشتهر بها الشيخ الكاشي بين الذين عرفوه في حياته وخصوصاً تلامذته الذين كانوا يتلمسون عشقه للحسين في كل كلمة يسمعونها منه وفي كل مجلس عزاء يتلوه على مسامعهم. يتحدث الشيخ أحمد درويش والذي كان أحد تلامذة الشيخ الكاشي عن علاقة الكاشي بالإمام الحسين عليه السلام التي بلغت حداً لا يمكن وصفه إلا بترداد ما كان يسمعه حيث كان يقول له دائماً: "ما طلبت من الإمام الحسين عليه السلام حاجة وردني والإمام عزيز إذا ارتبطت به يعزك" وكان يذكر له أنه عندما يقرأ هذا البيت في مجالس العزاء:
مولاي يا ابن الطهر رزؤك جاعل
دمعي شرابي والتحسر زادي
كان يشعر بحضور الإمام الحسين عليه السلام إلى جانبه.
* شخصية متعددة الصفات
لم يقضِ الشيخ الكاشي حياته في خدمة الإمام الحسين بإحياء ذكراه من خلال الموهبة التي استطاع أن يضعها لتحقيق هذا الهدف فقط بل وكما يذكر جميع من عرفه فقد كانت حياته مرآة حقيقية لتجسيد حياة أهل البيت التي تميزت بالبساطة وعدم الرغبة بالمكاسب الدنيوية أيضاً بالنسبة إلى الشيخ الكاشي لم تكن تعني هذه الدنيا شيئاً ولذلك فلم يرد أن يحصل فيها على أي ممتلكات مادية كاقتناء منزل أو سيارة وما شابه. كان مصراً على العيش ببساطة فلم تهمه مغريات الدنيا أبداً. ومن ناحية أخرى كان يُعرف عنه تواضعه الشديد والذي كان يتجسد في تعامله مع الجميع فبالرغم من الوقار والحضور القوي الذي كان يتمتع به على المنبر فقد كان في بيته رجلاً عادياً يتميز بلطفه ورقته وقربه إلى القلب. ومن الأمور التي تميزت بها شخصيته أيضاً حبه للمطالعة وتركيزه عليها كوسيلة من وسائل اكتساب المعارف المتنوعة حيث كان يتمتع بثقافة عالية ترافقت مع قدرة كبيرة على تحليل الأمور والنظر في خلفياتها وهذا كله كان يخدم مسيرته في قراءة مجالس العزاء.
* بين الشهداء
إن تقدم الشيخ الكاشي في السن لم يمنعه من الاستمرار في قراءة مجالس العزاء فقد ظل يتلو هذه المجالس محافظاً على المميزات التي كانت تتصف بها، وهذا ما كان يعزر الإقبال الشديد عليه من قبل الناس الذين ظلوا يستأنسون بصوته الذي أبى إلا أن يبقى في خدمة سيد الشهداء إلى آخر العمر لقد كانت إرادته في إصرار دائم على الارتباط بالحسين مهما كانت الظروف والأحوال وهذا ما دفعه إلى الطلب في وصيته بأن يُدفن بين الشهداء عند وفاته التي جاءت في عام 1997م. فدفن في روضة الشهيدين ليبقى حياً في الذاكرة كما حضور الشهداء.