الشيخ محمد عبد العال
"شذرات بين الجذور والآثار"
لعل القاسم المشترك الأبرز بين الإنسان والمكان - في دائرة البعد الوجودي وبلحاظ إشراف الزمان - أن كلاً منهما له حضوران، أحدهما ضروري والآخر مصداقي، فالأنبياء والأوصياء عليهم السلام يشكلون حاجات ضرورية لضمان استمرار حركة الرسالة الإلهية، وما عداهم من الناس خارج هذه الضرورة، بصرف النظر عن تفاوت حجم عطاءاتهم أو عظيم تضحياتهم، فالرسالة بهم تستمر وبدونهم تستمر في حين أن نفس هذه الرسالة بالأنبياء والأوصياء تستمر وبدونهم أو بدون أحدهم لا تستمر باعتبارهم الحَمَلة المنصوص عليهم بأسمائهم...
وهذا المبدأ ينسحب على المكان كما الإنسان - فثمة مساحات مكانية في عالمنا هذا تشكل شرطاً أساسياً للضرورة عينها، ومن أبرز هذه الأمكنة - إلى جانب مكة المكرمة بما تمثل من وعاءٍ حاضن للمسجد الحرام المنصوص عليه في الكتاب - تأتي القدس بقلبها النابض المسجد الأقصى المنصوص عليه في الكتاب أيضاً ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ...﴾ الآية فهي - أي القدس - بحكم موقعها كخط للتماس ونقطة للعبور بين عالم الفساد والتحلل وعالم الملكوت الأعلى المتمثلين برحلة الإسراء الأفقي الاتجاه ورحلة العروج العمودي الاتجاه - تمسي من ضرورات الرسالة، الأمر الذي يجعلها من ثوابت وعينا عقائدياً، ففي حركة التكامل الإنساني يكون الإسراء منطلقاً وبداية ويكون العروج نتيجةً وغاية، وهذا ما يثبِّت القدس كضرورة من ضرورات التشريع لا من مصاديقه، وليس تحويل القبلة انتقاصاً من مكانة بيت المقدس وإنما هو انتقال وظائفي في حركة التشريع الإلهي يجعل من بيت المقدس قبلة للجهاد بعد أن كانت قبلة للصلاة، فلأداء الصلاة نوّلي وجهنا شطر المسجد الحرام، وللجهاد نولي وجهنا شطر المسجد الأقصى. وهذا التكامل - قياماً وقعوداً - من أبرز مصاديق التوطئة للهدف المنشود المتمثل بظهور صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف كما في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله... يوطئون للمهدي سلطانه... وهنا نطل على مجموعة حقائق من أبرزها أن عالمية القدس لا تقف عند حدود البعد المكاني من زاوية إحياء يومها في عدة بلدان وعواصم من العالم تجعل منه انتشاراً جغرافياً فحسب، فهذا - على أهميته - تسطيح - ولا شك - للّطائف الاشراقية والعرفانية لدى الإمام الخميني المقدس قدّس سرّه التي كشفت عن بُعدٍ بعيدٍ في النظر وعمقٍ عميقٍ في الدلالة عند إختياره لهذا اليوم المتربع في أحضان ليالي القدر المباركة التي - بدورها - تشكل نواة للزمان ورديفاً لكمال الإنسان على مسرح المكان...
وإنما تتعداه - هذه العالمية - لتشمل كافة الأبعاد، الزماني منها بجناحيه:
الاسمي والرقمي كما سيأتي، والحضاري والرسالي و... إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قران كريم. ومن الإشارات اللطيفة إلى ذلك أن يوم القدس إسميّاً بالأصل ورقمياً بالعَرَض والمطابقة، فكون المناسبة تقع في آخر يوم جمعة من الشهر المبارك وليس في يوم السابع والعشرين على سبيل المثال - رقمياً - أو سواه من أيام الأسبوع الأخير، يجعل المناسبة ذات حركة دائمة التجول على كافة أيام الأسبوع الذي يشكل بدوره وحدة قياس زمانية يسمح تكرارها على مدى الأعوام المتلاحقة بأن يملأ يوم القدس - بعالميته التاريخية - ذرات الزمان من خلال هذا الاختيار الحكيم والموفق الذي يشكل انعكاساً مقتبساً من ليالي القدر التي بدورها محطات إسميّة بالأصل ورقمية بالعَرَض، وهنا نقف بتهيّب خاص أمام عمق تأملات وإشراقات إمامنا المقدس الخميني العظيم لهذا التوفيق المميز في اختياره، وكأنه أراد أن يرفد القدس الضرورة بديمومة ضرورية مطّردة تتصدى لكل محاولات وأدها كقضية على يد وحوش العالم المستكبرين. بناءً على ما تقدم يدرك مدى السطحية والحماقة عند الذين يتحدثون عن القدس بوصفها شيئاً قابلاً للتفاوض والمساومة!! فالمساومة عليها تماماً كالمساومة على عدد ركعات الصلاة اليومية الواجبة بلا فرق، ولعاقل أن يتصور اقتراحاً تفاوضياً يقضي بجعل صلاة الظهر - على سبيل المثال - ركعتين ونصف!! أو تحويل فريضة الصوم إلى عشرة أيام وربع اليوم!!!
إن عدم التفريط بذرة تراب من القدس خصوصاً وفلسطين عموماً لهو من المسلمات الراسخة في طول وعرض وعمق أمتنا الإسلامية على مدى تاريخها وغير قابل للبحث والتداول، وأما الذي يجري في حاضرنا اليوم على يد شرذمة من شذاذ الآفاق من "يهود أمتي" ليس إلا حالة طارئة وعابرة لن تدوم لاختزانها بذور فنائها، وما بروزها إلاّ لكبوة عرضت لحصان هذه الأمة يوم امتطى صهوته المتطفلون من القاسطين والمارقين والناكثين قديماً وحديثاً!؟.. ولكن استنهاض هذه الأمة وبعثها من جديد يستدعي استنفار الأقلام والحناجر والبنادق والبيارق وكل الطاقات والقدرات.. وهذا كله لا ولم ولن يتحقق إلا بوحدة الأمة على ضوء الاستفادة الجدية من تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران والتبني الكامل لتجربة المقاومة الإسلامية الرائدة في لبنان ببعديها النظري والتطبيقي كطريق وحيد للتحرر والتحرير، والتبني الكامل للانتفاضة المباركة في فلسطين.. فمن التحق بالإسلام المحمدي المتمظهر - اليوم - في إيران الدولة ولبنان المقاومة وفلسطين الانتفاضة فقد صنّفَ نفسه من سرب الأحرار وفاز ورب الكعبة ومن تخلف عن هذا الركب فقد صنّف نفسه في سرب الأشرار ولن يبلغ الفتح... ... إنه نهوض أمة. بدايات غيثه، نصر مبارك وفتح مبين - بالأمس إيران - اليوم لبنان - وغداً فلسطين.
وكُثُر قد توهموا انتفاء الحاجة إلى شعار "زحفاً زحفاً نحو القدس" عند تحريرها!! بل ينطلق الشعار عند تحريرها لأن القدس في عصب وعينا هي نواة هذا الوجود المتشظي عنها المفتقر إليها، وما مدينة القدس في فلسطين بأبعادها الجغرافية وصُوَرها المعمارية سوى تمظهر مصداقي تزيّا بحلة الشكل الصاخب لحضور ضروري مخصّب... ... هذه هي قدسنا... فما أوقحهم وأحمقهم حين يطرحونها للسجال والتداول!!؟؟