يوم القدس آخر يوم جمعة من شهر رمضان
تحقيق: فاطمة خشاب درويش
بعفويّةٍ، كان الناس الذين ضاقت بهم الشوارع يقصدون الأبنية حول أوتوستراد السيّد هادي، يصعدون إلى المنازل دون أن يحتاجوا إلى طرق الأبواب المشرّعة، يصطفوّن على الشرفات، يشاهدون مدّاً بشريّاً، وفي المنتصف تتقدّم ألوية المجاهدين بقبضات مرفوعة، يرسمون بأجسامهم علم فلسطين، فتتراقص نبضات الجماهير مع إيقاع الأقدام المتراصّة فوق الأرض، كأنّما يعزفون لحن القوّة والعنفوان، وتهوي القلوب مع عبور المجاهدين فوق الحبال المعلّقة بين الأرض والسماء، فتبدأ الصيحات: "يا قدس.. إنّنا قادمون".. إنّه يوم القدس العظيم...
•إعلان واستثمار
منذ إعلان الإمام الخميني قدس سره "يوم القدس العالمي" في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان عام 1979م، والقضيّة الفلسطينيّة حاضرة بقوّة في الوجدان الشعبيّ في مختلف البلدان. فقد بات هذا اليوم مناسبةً لإقامة العديد من الفعاليّات والأنشطة، تعبيراً عن التضامن مع فلسطين والقدس الشريف.
على صعيد لبنان، كانت أنظار العالم تتّجه إلى ساحة العرض العسكريّ في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، عبر القنوات العالميّة، الغربيّة والعربيّة، التي تتزاحم لنقل فعاليّات هذا الحدث الاستثنائيّ في الشكل والمضمون، فالمشهد كان مهيباً يرصده العدوّ الصهيونيّ بحيرةٍ وارتباكٍ حيال تعاظم قوّة المقاومة الإسلاميّة.
•ثلاث مراحل
بدأ إحياء يوم القدس العالميّ في لبنان متزامناً مع انطلاق المقاومة الإسلاميّة. وبحسب المتابعين، فقد مرّ إحياء يوم القدس في لبنان بثلاث مراحل:
-الأولى: منذ بداية الثمانينات وحتّى أواخر التسعينات، وكان الإحياء يشمل مختلف المناطق اللبنانيّة بأشكالٍ متعدّدة.
-الثانية: شكّل تحرير عام 2000م، محطّة أساسيّة للقضيّة الفلسطينيّة، هذا الانتصار المدوّي على العدوّ الصهيوني جدّد الأمل عند المستضعفين في مختلف أنحاء العالم، وأعاد توجيه البوصلة إلى فلسطين.
-الثالثة: بدأت بعد حرب تموز 2006م حتّى اليوم، حيث طرأت بعض التعديلات على فعاليّات الإحياء؛ فقد توقّف العرض المركزيّ، ولكن استمرّ زخم الإحياء بأشكال مختلفة، فلا يزال خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) الكلمة الفصل في هذا اليوم.
•إحياءٌ رغم المطر
كان الرابع عشر من شهر كانون الأول عام 2001م، حينما تقدّم الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) الجماهير المشاركة، إيذاناً ببدء العرض العسكريّ، الذي استُهلّ بآيات من الذكر الحكيم، تلاها نشيد حزب الله والنشيد اللبناني، وتقدّم العرض صور القادة الشهداء، ومن خلفهم فرقة من الكشّافة تحمل الرايات التي تمثّل ألوان علم فلسطين. كان يوماً ماطراً بغزارة، وعلى الرغم من ذلك، بقي الناس يشاهدون العرض في الساحات التي غصّت بهم، وبقيت فرق العرض في حالة التأهّب. يقول محمّد، أحد المشاركين: "بقينا يومها في حالة التأهّب تحت المطر لأكثر من ساعتين دون حركة. لم نشعر بالضعف أو التراخي، ولم نفكّر في المرض".
•طفل "الربّال"
من لا يذكر صورة الطفل ابن السنوات الستّ على "الربّال" حاملاً بكلتا يديه الراية الصفراء، وما إن هبط حتّى تقدّم من المنصّة، وقدّم التحيّة العسكريّة لسماحة الأمين العام؟! كرّار شابّ من الآلاف الذين شاركوا في العرض العسكريّ المركزيّ ما يزال يتذكّر بدقّة تلك التجربة التي عاشها، واستمرّت، وهو في السادسة من عمره، حيث كان يشعر بالرغبة في الوقوف أمام منصّة العرض كالرجال الأقوياء، يصرخ معهم "ستزول إسرائيل من الوجود". يتذكّر كرّار الأيّام الطويلة التي أمضاها في التدريب: "لم تكن الأمور سهلة أبداً، ولكنّني كنتُ مصرّاً على ذلك". وهكذا، بدأت تجربة كرّار مع عرض يوم القدس؛ لتستمرّ في دروب معارك الدفاع عن المقدّسات، وكثيرون مثله، هم أشبال شبّوا على القضيّة، وكان خيارهم النهج المقاوم. يختم كرّار بعبارة لا تفارقه: "سيأتي اليوم الذي نصلّي فيه في القدس الشريف".
•أربعة أشهر من التحضير
كان العرض العسكريّ يستغرق قرابة الساعتين، ولكن ما لا يعرفه كثيرون أنّ هذا المشهد المهيب كان يتطلّب الكثير من التحضير، والتنظيم، والتدريب على أكثر من صعيد. كانت التحضيرات تبدأ قبل أربعة أشهر من العرض، يتخلّلها الكثير من المتابعات على صعيد التحضير اللوجستيّ، أو لجهة المشاركين في تقديم العرض من مختلف الفئات العمريّة.
يتحدّث الحاج أبو حمزة، المعنيّ بالتدريب والتحضير للعرض المركزيّ في يوم القدس العالميّ، قائلاً: "يوم القدس هو يوم استنهاض الأمّة لتبقى وجهتها الأساسيّة فلسطين. المشهد في ذلك اليوم يختصر الحكاية كلّها؛ أجيال تخطو خطواتها الأولى في الحياة على دروب المقاومة والجهاد، وتتفتّح بصيرتها على قضيّة الحقّ في مواجهة الباطل، فلا مهادنة مع العدوّ، بل مقاومة وشهادة". ويلفت إلى أنّ أعداد الراغبين في المشاركة كانت تزداد دوماً: "هناك أشخاص غير ملتزمين دينيّاً كانوا يطلبون المشاركة في العرض العسكريّ، فقضيّة فلسطين تستحقّ الإقدام والتضحيات"، مشيراً إلى أنّ هذا اليوم كان فرصة لاستعراض شيء من القوّة المعدّة لمواجهة العدو، وساهم في شحن هذا الجيل الصاعد بالروحيّة الإيمانيّة والجهاديّة: "أذكر الشهيد جهاد عماد مغنيّة وعدداً من الشهداء، كانوا في عمر السادسة أو السابعة، يشاركون في العرض العسكريّ من خلال سريّة أبناء المجاهدين، وها هم التحقوا بدرب الشهداء دفاعاً عن الأرض والعرض".
•انضباطيّة والتزام
في كلّ عرض عسكري في يوم القدس العالميّ، كانت الأنظار تشخص لمشاهدة استعراض الوحدات القتاليّة التابعة لأشبال المقاومة الإسلاميّة، فضلاً عن العروض الخاصّة التي كانت تتمثّل بالهبوط على الحبال، وتسلّق الأبنية العالية والهبوط منها، والانتقال من مبنى إلى مبنى آخر على ارتفاعٍ شاهق، كتعبيرٍ رمزيّ عن استعداد وجهوزيّة المقاومة التامّة للمواجهة. يعود الحاج أبو حسين، مسؤول فصيل تدريب "الربّال"، إلى تلك المرحلة التي تولّى خلالها هذه المهمّة على مدى سنوات عديدة: "مخطئ من يعتقد أنّ الاستعراض العسكريّ هو مجرّد عرض شكليّ يقتصر على الحركات السريعة والخبرة للمتدرّب، بل إنّ عرض يوم القدس هو يوم البيعة لفلسطين وللقضيّة الفلسطينيّة". ويتابع: "كان الشباب يتزاحمون من مختلف القطاعات للمشاركة في هذا العرض، يقومون بكلّ ما يُطلب منهم بجدّيّة والتزام دون ملل أو كلل من فترات التدريب الطويلة التي لم تكن تخلو من بعض المخاطر وخاصّة في موضوع الربّال". ويشيد "أبو حسين" بجماليّة الروح التي كان يتحلّى بها الشباب المشاركون، المؤمنون بالقضيّة الفلسطينيّة، ما ظهر جليّاً في السنوات اللاحقة: "لقد ارتفع من المشاركين شهداء، في مواجهة العدوّ الصهيونيّ والعدوّ التكفيريّ".
يؤكّد الحاج بشير، مسؤول تدريب المشاة في فصيل "الربّال"، على أنّ مرحلة التحضير للعرض العسكريّ في يوم القدس لم تكن مهمّة سهلة، فقد كانت محطّة أساسيّة تشحذ لها الهمم، وتوضع لها الخطط، حتّى تنجح على أكثر من صعيد. فالعرض الذي كان يراه الناس على مدى دقائق معدودة، كان يتطلّب تحضيراً لوجستيّاً وعمليّاً، من تركيب المنصّات والحبال والأدوات والمعدّات اللازمة، وهذا الأمر من مهام فريق متخصّص لديه خبرة واسعة في تركيب وفكّ الحبال وضمان سلامة استخدامها. أمّا فيما يتعلّق بالراغبين في المشاركة في العرض، فكانوا يخضعون لدورة ثقافيّة مركّزة، هدفها تعزيز الجانب الثقافيّ والروحيّ لديهم، فضلاً عن تدريبات مركّزة على المشي والتسلّق، تتطلّب الانضباطيّة، والالتزام، والصبر.
•صرخة حقّ
هي صرخة حقّ يطلقها شعب المقاومة في لبنان في يوم القدس العالميّ في وجه الاحتلال الغاصب، علّها تخرق الصمت العربي المريب حيال القضيّة الفلسطينيّة، صرخة تكبر مع الأيّام ببركة دماء الشهداء، وآهات الجرحى، وصبر عوائلهم، وستثمر نصراً لفلسطين والأحرار إن شاء الله، ولو كره الكارهون.