سعيد أبو نعسة
لطالما أخبرتكم عن تلك الهضاب، ولطالما عجبتم لشدّة تعلّقي بها.
قلتم: الأستاذ يغالي في حبّها، ويبالغ في التغنّي بجمالها.
آن الأوان كي تكتحل عيونكم بمرآها.
ستقولون: وهل الجنوب مما يُحَجُّ إليه؟!
لن أجيب عن هذا السؤال... بأنفسكم ستكتشفون الجواب.
أترون هذه الأرتال المتزاحمة من السيارات؟
كلّها تيمّم شطر الجنوب!
وهذه الصرخات التي تشقّ أجواز الفضاء؟
كلّها تعاهده على الصمود.
ستضيع أصواتكم في معمعة آلاف الحناجر الهاتفة.
لا تحزنوا! الجنوب قادر على التمييز، مهما تلاطمت الصيحات واختلفت الهتافات.
الوطن، كلّ الوطن يقف على صعيد الجنوب، ينشد أنشودة النصر يعانق الصخور الشامخة في وجه الريح، ويُقبّل الأكفّ السمراء التي صفعت الشرّ، وطاردت فلوله. بأمّ أعينكم ستشاهدون المدرّعات العرجاء، والمصفّحات الشوهاء، وناقلات الجند التي يُحوّم حولها الذّباب. وبحواسكم كلها ستسمعون ضحكات الأرض، وقد أزاحت عن كاهلها رجس العدوّ. ستطأون بأقدامكم مواقعه الحصينة، وستسمعون أنين كلابه يلهثون وراءه تاركين أحذيتهم وسراويلهم، حرصاً على الفوز بحياةٍ، أيّ حياة! لا تحملوا معكم زاداً، وقد نزلتم على شيخ القبائل! ها هو يُشرّع ذراعيه لاحتضان الوطن من جديد، ويصيح في الجموع: لا تصوموا اليوم...
لا يصحّ الصوم في عيد. كل شيء اليوم مختلف: ستعبّون ماءً زلالاً سائغاً للشاربين، وستقطفون ما طاب لكم من خيرات الجنوب، ستشعرون بأمانٍ لم تشعروا بمثله في بيوتكم، وستسبلون أجفانكم مطمئنّين في ظلال التين والزيتون، وستضمّخون جباهكم بعبق الصّعتر والليمون، وستندمون... ستندمون كثيراً لأنكم قصّرتم في حقّ الجنوب. لا تعتذروا... فالجهاد فرض عين. لا اعتبار للسن في يومنا هذا... الأطفال أيضاً يجاهدون؛ سلاحهم مقلاع وحجر. طمئنّوا قد غفر الجنوب لكم تخلّفكم عن نصرته.
لن يلوم أحداً على تقاعسه. سيهديكم النصر، وسيزرع البسمة في عيونكم جميعاً... وسيضرب لكم الأمثال. سيقف أمامكم خطيباً، وسيتلو على مسامعكم قصّة أمّ علي: كانت في بيروت أشهرَ من صخرة الرّوشة، يُشار إليها بالبنان، ويُقصد رأيها في كلّ شأن. هي من قيل فيها: تدخل على القادة بدون استئذان. لم تكن بدعاً من النّساء المكنّيات بأمّ علي ولم يُضِف لقب الناصرية إليها غير شرف انتسابها إلى الناصرة. غير أنّها توجّت هامتها بتاج فخار رُصّع بماساتٍ أربع، نُقِش على صفحة كلّ منها اسم شهيد. حين زُفّت إليها بشرى استشهاد زوجها، أطلقت زغرودة الشّهادة. حلف السامعون أن صداها تجاوب في أرجاء المخيّم. وأُطلق عليها آنذاك: زوجة الشهيد.
لقبٌ جديد كلّفها مسؤوليات جسام، فقامت تربّي أولادها الثلاثة على حبّ الأرض، وعشق الشهادة، حتّى زغردت في وداعهم ثلاث زغرودات متتاليات، قضّت مضاجع الأعداء، فراحوا يترصّدونها لإخراس حنجرتها، وإطفاء جذوة النّضال فيها، فما استطاعوا. لم تطالب بثأر أولادها وزوجها، وقد أخذوا بثأر أنفسهم قبل الاستشهاد. تهاطلت عليها الألقاب: هذا ينعتها بأمّ الشهداء، وذاك يلقّبها بخنساء القرن العشرين، وذلك يسلّمها درع الأمّ المثالية. فما كان موقفها؟ قالت لهم: أرفض كلّ الألقاب. من أراد تكريمي، فليسمّني أم علي الناصرية وكفى! أجل! لا تعجبوا! الكثيرات من النسوة يشبهنها، لا فرق إن ودّعت الواحدة منهنّ فلذة من فلذات كبدها أو أكثر. أتسمعون هذه الزغرودة القادمة مع الريح؟ هي.. هي... زغرودة أم عليّ! الوقع وقعها، والجَرْسُ جَرْسُها، والبحّة بحّتها.
انظروا إلى هذه العجوز، كيف تتوكأ على عصا، تسند بها قواماً حَنَته الآلام. تكاد تطير فرحاً، تدبّ إليكم، يسبقها شوق جارف إلى لقائكم. اسمعوا الزغرودة جيّداً، وارحلوا في معانيها: كلمات واضحة لا لبس فيها، تختصر أنشودة النصر وتهليلة الفرح. قِفوا جميعاً للترحيب بها، وأسرعوا... أسرعوا لرفعها عن الأرض؛ لم تكن لتتعثّر لولا لهفتها الآسرة لرؤيتكم. تابعوا زغرودتها التي لم تنقطع رغم ارتطام وجهها بالأرض. أنصتوا إلى زغرودة يتجاوب صداها في أرجاء بنت جبيل. سلوا العجوز: كم مرّة زغردت في وداع أبنائها الشهداء؟ سترفع أصابعها الثلاثة. سلوها عن اسمها وكنيتها. ستقول لكم بالفم الملآن: أُمّ علي اللبنانية.
اعقدوا مقارنة بينها وبين الناصرية لن تجدوا كبير فرق بينهما. جُبلتا من ترابٍ واحد، وتنشّقتا هواءً واحداً وزغردتا زغرودة واحدة لم يقوَ على فصلها هذا الشريط الشائك. فما اللَّقب الذي يصلح لهما معاً؟! لا حاجة بهما يا أستاذ إلى الألقاب، فلنطلق عليهما: أمّ علي وكفى!