الشيخ مالك وهبي
ربما يكون من البديهيات أننا عندما نتحدث عن المعارف الإنسانية عموماً وعن المعارف الدينية خصوصاً أن نبدأ بالبحث عن نص قراني أو نص روائي ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الأئمة عليهم السلام وفقاً لسجيتنا الإسلامية وتربيتنا الثقافية الأصيلة من دون أن يعني هذا إغفال ما للعقل من دور مهم وحاسم في تشكيل تلك المعارف.
وفي هذه الأيام نعيش حالة من التشويش المتعمد تجاه قيمة النص في تشكيل المعرفة ابتداء من المحاولات الساعية لإفراغ النصوص عن مضمونها أو لتعطيلها من خلال اعتبارها أمراً تاريخياً مقترناً بظرف خاص لم يعد لها أي صلاحية في الظروف الزمنية اللاحقة. فما هي قيمة النص وكيف أسس علماؤنا الكرام للنص في عملية البحث عن المعرفة؟
* أقسام المعرفة
قسَّم العلماء المعرفة، كمعرفة، إلى قسمين: معرفة قطعية يقينية ومعرفة ظنية. والمعرفة اليقينية هي من أسمى المعارف وأثبتها بالنظر إلى العارف، وأسمى المعارف اليقينية ما كان بديهياً، وهي الركيزة التي تتأسس عليها كل معرفة مرتبطة بها. ولا يمكن الوصول إلى معرفة يقينية من دون أن تكون في خلفيتها قضية بديهية ومعرفة وجدانية أو فطرية يقر بها العقل من غير حاجة إلى إعمال فكر ونظر. ولولا هذه المعارف البديهية لما قامت معرفة في الوجود. وأما المعرفة الظنية، وهي التي تنطبق على كثير من المعارف التي يحملها الناس أو المثقفون فهي معرفة نحتاج في البناء عليها وتبنيها إلى دليل يدل على قيمتها، أي لا بد من البحث عن قيمة المعرفة الظنية بعد أن كان من الواضحات ثبوت القيمة للمعرفة اليقينية. وإثبات القيمة لأي معرفة ظنية لا يكون إلا من خلال اليقين، لأن إثبات القيمة بالظن يبقينا في محلنا ولا يفيدنا بشيء، ويكون كلامنا مصادرات أو دور(1) وتسلسلات.
من الواضح أننا لا نريد أن نجرد المعرفة الظنية أو الاحتمالية عن أي قيمة فإن للظن والاحتمال دخالة قوية في الوصول إلى اليقين، فإنك ما لم تفترض لن تتمكن من الإحاطة بكل المحتملات ثم تمحيصها والبرهنة على صحة أحداها وفساد ما يتبقى. وكل العلوم والمعارف تتمحص من خلال القدرة على إبداء الاحتمالات الممكنة في القضية التي تتم معالجتها. وعلى هذا الأساس قسَّم علماؤنا المعرفة الظنية إلى قسمين: قسم قام الدليل على اعتبارها وقيمتها، وقسم لم يتحلّ بمثل هذا الدليل. ولهذا التقسيم منشأ ديني وعقلي.
* المنشأ الديني لتقسيم المعرفة
أما المنشأ الديني ففيه آيات وروايات: أما الآيات فنذكر نموذجين:
الأول: قوله تعالى: ﴿أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس/59)، فقد دلت هذه الآية المباركة على أنا إذا أردنا أن نسند أمراً إلى اللَّه تعالى أو إلى دينه فلا بد أن نملك المستند لهذا الإسناد وإلا كنا ممن يفتري على اللَّه تعالى، والمستند ليس إلا ما أذن اللَّه تعالى به، وهو قد أذن باعتماد المستند القطعي عقلياً كان أو غيره، بل المعروف أن القطعي لا يحتاج الاستناد إليه إلى إذن وفق ما ثبت في علم أصول الفقه، وإنما نحتاج إلى الإذن في المورد غير القطعي أي الظني أو الاحتمالي، فالظن والاحتمال يتساويان في عدم صحة الاستناد إليهما في إسناد متعلقهما إلى اللَّه تعالى ودينه. ومن هنا اعتبر العلماء أن الإسناد الظني أو الاحتمالي غير المأذون فيه من التشريع المحرم. الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس/36)، فقد دلَّت هذه الآية على أن الظن في حد نفسه لا يملك أي قيمة، إلا أنها لا تعني أنه لا يمكن أن ينالها بطريقة أخرى، فلو قام الدليل القطعي على أن بعض الظن ذو قيمة معرفية فإن الاعتماد على هذا الظن حينئذ يكون مستنداً إلى الدليل القطعي الدال على اعتباره، فيكون عملاً بالقطع لا بالظن. ومن هنا قيل أن الظن المعتبر خارج عن هذه الآية تخصصاً لا تخصيصاً.
أما من الروايات فنذكر أيضاً نموذجين:
الأول: ما في وسائل الشيعة ج18 الباب الرابع من أبواب صفات القاضي، أن هشام بن سالم سأل الإمام الصادق عليه السلام: ما حق اللَّه على خلقه؟ فأجاب عليه السلام: "أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى اللَّه حقه". من الواضح أن السؤال والجواب متعلقان بحق اللَّه في مقام الإسناد إليه تعالى.
الثاني: ما في المصدر السابق، عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: أنه قال: "إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك، إياك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم".
* المنشأ العقلي
أما المنشأ العقلي للتقسيم: فهو أن المعرفة الظنية معرفة ناقصة، ونقصانها مانع عن البناء عليها ما لم يثبت أن هذا النقصان مغتفر، والعفو عن هذا النقصان لا يكون إلا بدليل قطعي أو دليل ظني ثبت اعتباره بدليل قطعي. وليس إذا اغتفر النقصان في ظن يكون دليلاً على اغتفار النقصان في كل ظن فرب ظن يغتفر نقصانه دون آخر.
* الحاجة إلى النص الديني
وبناء على هذا التقسيم الذي يقر به العقل والشرع، كان البحث متوجهاً إلى قدرة العقل على تحصيل معرفة يقينية، وهل العقل يكفينا في تحصيل المعارف أم أننا نحتاج إلى نص ديني، أي قول اللَّه تعالى أو قول النبي ا والأئمة المعصومين و. ولن نستطيع في هذه العجالة أن نبين الفكرة الصحيحة القائلة بأن العقل لا يملك من المعارف اليقينية إلا ما قلَّ بحيث لا يكفي ما لديه من هذه المعارف لتشكيل معرفة إلا أنه مع ذلك هناك دور للعقل فيها. ومن هنا اعتبر العلماء أنَّ سبل تحصيل المعرفة الدينية تدور بين ثلاثة سبل: العقل، والقران، والسنة النبوية أو الإمامية. أما الإجماع فهو في الحقيقة يعود إلى العقل أو السنة، وإلا فلا يصلح عده مصدراً مستقلاً. أما العقل فما كان منه قطعياً كان طريقاً من طرق المعرفة أما الظني فهو خاضع لما أسسناه من أنه لا قيمة له إلا ما دل القطع واليقين على قيمته، والعقل الظني لا سبيل لإثباته من عقل قطعي وإلا لم يكن ظنياً لأن نتائج العقل القطعي هي أيضاً من العقل القطعي، وعندما نفترض عقلاً ظنياً أو معرفة عقلية ظنية فمعنى ذلك عدم قدرة العقل على إعطائها صفة اليقينية، ومن هنا يلجأ العقل إلى النص الديني لملاحظة ما إذا كانت تلك المعرفة الظنية مقبولة أم لا، فهو يستعين بغيره في تحصيل هذه النتيجة.
ومن هنا تظهر أهمية النص الديني ذلك أن الغالب في المعارف العقلية أنها ظنية أو احتمالية، فتكون الحاجة إلى النص الديني حاجة كبرى. أما القران فهو مصدر المعرفة الذي لا بحث في سنده لأن الإعجاز القرآني أثبت سنده إلى اللَّه تعالى. أما السنة فهي أيضاً سبيل من سبل المعرفة، فالرسول ا والأئمة و مبينو الأحكام والمفاهيم والمعارف ومفصلوها بعد أن ورد إجمالها في القرآن، وهم الشارحون للقرآن الكريم وهم الذين يحملون حقيقته الكاملة. ولا تقتصر السنَّة على أقوال المعصومين و بل تشمل فعلهم وتقريرهم، ولذا كان التأسي بهم مستحباً وليس ذلك إلا لأن أفعالهم لا تندرج إلا في إطار المباحات، فلا يخطئون لا سهواً ولا عمداً، وإلا لم يصح الأمر بالتأسي مطلقاً، بل ترقى البعض وقال أن دليل التأسي يدل على أنهم و لا يأتون بالمكروه عادة فلو أتوا بمكروه لمبرر من المبررات لكان عليهم البيان حتى لا نتأسى بهم في ذلك المورد. إن من الخلاصات المهمة التي بيناها عدم كفاية العقل في تشكيل معرفة دينية أو غير دينية إلا إذا تساهلنا فلم نميز بين القطعي والظني والاحتمالي، وصادرنا بحثاً حول قيمة الظن فبنينا عليها من دون إثباتها.
وأن العمدة في عملية تحصيل المعرفة هي على النص الديني، وهو فعل للعقل أيضاً لأنه الذي يتولى فهم النص ويقارن النصوص ويبحث عن القرائن. فالنص الديني ليس نصاً يجانب العقل كيف والمخاطب بالنص هو العقل، حتى أن التعبد بالنص في بعض الأحيان يستند إلى حكم للعقل به.
* النص الديني القرآني والروائي
وعند الحديث عن النص الديني القرآني والروائي نجد بينهما جهة افتراق وجهة اشتراك. أما جهة الافتراق، فهي ما تمت الإشارة إليه سابقاً من أن النص القرآني قطعي الصدور بينما النص الروائي ليس كذلك دائماً، بل ليس كذلك في غالب الأحوال إلا ما كان متواتراً والتواتر في النصوص المروية عن المعصومين وقليلة بالنسبة لما اتفق على تواتره. وغالب الأخبار ليست من المتواتر بل من أخبار الآحاد التي لا تعني أكثر من أن رواة ثقاة رووا الرواية، وهم الذين لا يكذبون ولا يشتبهون بحسب المعروف عنهم عادة، إلا أن هذا لا يمنع من احتمال الكذب حتى من الثقة إذ لا يستحيل عليه ذلك، كما لا يمنع من احتمال الاشتباه والسهو فيما ينقل. أما جهة الاشتراك فهي في أن النص يحتاج إلى تأسيس طريقة صحيحة لفهمه، ولئن كان النص القرآني قطعي الصدور فإنه كالنص المروي عن المعصومين عليهم السلام ليس قطعي الدلالة إلا ما ندر.
وقد أسس علماء الأصول طرقاً لفهم النص تسالموا عليها كما برهنوا على صحتها إلا ما ذهب إليه بعض الإخباريين من علماء الإمامية من أنه لا يمكن فهم النص القرآني إلا إذا ورد تفسير من المعصومين عليهم السلام فإذا لم يرد تفسير علينا أن نتنحى عن الآية ولا نفسرها وهذا القول رفضه جملة من الإخباريين وكثير من علماء الأصول، مستدلين على ذلك بآيات قرآنية دعت إلى فهم القران والأمر بالتدبر بآياته وتعقلها. إلا أن علماءنا اتفقوا أيضاً على أنه لا يصح تفسير القران بالرأي، وهذه قصة طويلة لا نستطيع التركيز عليها في هذه المقالة المختصرة.
* علاقة نص المعصوم عليه السلام بالنسبة للنص القرآني
ثم إن هناك علاقة بين النصين، أعني القرآني والمروي عن المعصومين عليهم السلام لا بد من تأسيسها، فهل هي علاقة تبعية نص المعصوم عليه السلام للنص القرآني أم علاقة تكامل. مما لا شك فيه أن النص القرآني هو المعيار في رد الأحاديث وقد طفحت كتب الحديث في التركيز على هذه الحقيقة، إلا أن هذا إنما يصح في الأحاديث التي تنافي القران بنحو التباين الكلي بحيث لا يمكن فرض أي تكامل بينهما. والفرق بين نحوي العلاقة التبعية والتكامل يظهر فيما إذا كان النص المروي عن المعصوم عليه السلام يخالف النص القرآني بالعموم والخصوص المطلق، وما إذا كان مضمون النص المروي عنه عليه السلام غير موجود أساساً في القران، فبناء على علاقة التبعية علينا أن نرفض نص المعصوم عليه السلام في كلتا الحالتين، أما إذا قلنا بأن العلاقة هي علاقة تكامل فعلينا القبول بالنص في كلتا الحالتين، ومن هنا تأسس بحث في علم الأصول حول صلاحية النص لتخصيص الكتاب، وحيث أن النص يردنا في أغلب الحالات عبر أخبار آحاد، كان لدينا بحث آخر حول صلاحية النص الوارد بالخبر الواحد للتخصيص والمعروف صلاحية النص سواء وردنا بخبر متواتر أم بخبر واحد. وقد بذل علماؤنا في تنقيح هذه البحوث جهداً معمقاً.
وبناء عليه يصبح نص المعصوم عليه السلام قابلاً لأن يكون قرينة من القرائن التي يجب ملاحظتها عند تفسير النص القرآني. إلا أنهم رفضوا نسخ القران برواية وردت عن المعصومين عليهم السلام لأن الأدلة دلت على عدم صلاحية النص لهذا الدور. وعلى ضوء ما تقدم يتضح أن العمدة الأساس في المعارف الدينية هو النص بكلا وجهيه المتكاملين، على أن يتم الانطلاق من أسس صحيحة مثبتة في إثبات النص وفهمه، إذ ليس كل ما يرد على أنه نص يصح الاعتماد عليه، ولا كل متن يمكن البناء عليه من دون مراجعة كل النصوص المعتبرة المتعلقة بمضمونه، بالإضافة إلى ملاحظة مدركات العقل القطعية والقرائن اللفظية والحالية المحيطة بالنص، وهنا ندخل في سلسلة عناوين يحتاج كل منها إلى بحث خاص به، لا يسعنا هنا التطرق إليها.
(1) "الدور" مصطلح كلامي يعني وجود أمرين يتعلق ثبوت كل منهما على الآخر.