* حكم الحكومة والحكم الثانوي
ذكرنا أن الولاية بمعنى الحكومة هي حكم إلهي وأن حق إثباتها لأفراد معينين مختص بالله سبحانه وتعالى شأنها في ذلك شأن بقية الأحكام فكما أن الله قد وضع حكم الوجوب على عناوين كالصلاة والصوم والحج، كذلك فإنه جعل سمة الولاية والحكومة لأشخاص بعينهم، وبالطبع يكون هذا الجعل أحياناً بنحو خاص مثل النبوة والإمامة وأحياناً بنحو عام مثل ولاية الأب والجد أو ولاية الوصي.
وجعل الولاية في جميع الموارد حكم شرعي يعرض على موارد خاصة كانت محكومة بحكم سابق مثل جواز أكل الميتة عند الضرورة ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ فلا إثم عليه﴾ (البقرة/173).
أما قضية الولاية فإنها حكم أولي. وكمثال نأخذ ولاية الأب على أولاده، فلم يكن لدى الأب حكم آخر قبل أن يأتي حكم ثانوي جديد بعنوان الولاية، بل أن الأبوة من البداية جعلت له الحق بالولاية.
وحكومة الحاكم أيضاً مثل ولاية الأب والجد حكم أولي. فالاختلاف ما بين ولاية الحاكم على المجتمع والولايات المجعولة للأفراد الآخرين هو في دائرة وحجم هذه الولايات. مثل دائرة ولاية الأب والجد التي هي في حدود مصالح الابن الصغير أو دائرة ولاية الأب على الابنة البالغة في خصوص الزواج وأمثاله.
أما حدود ولاية النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام فهي حفظ مصالح الإسلام والمسلمين لأنهم هم أولياء الإسلام وأولياء المسلمين.
الإسلام الذي هو مجموعة القوانين قد تمّ بعد تشريع وتعيين الولاية في وقعة الغدير، وهناك لم يعد مكان للتخصيص العام أو التقييد المطلق أو النسخ في الحكم. فلا زيادة على الواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات أو المباحات ولا نقصان، وإذا قام الأئمة عليهم السلام من بعدها بالتقييد والتخصيص فذلك من باب وراثة الرسالة وتبيين الأحكام الصادرة، وإلا ففي حدود القوانين الإلهية لا يوجد مجال لزيادة مستحب ولا نقصان مكروه.
إن حفظ مصالح الإسلام والمسلمين بمعنى حراسة القوانين المذكورة هو في حدود العمل والتنفيذ. فأحكام الإسلام الواسعة ما دامت عبارة عن قوانين مدوّنة وموجودة بالوجود اللفظي أو الكتبي فلن تتعرض لأي مزاحم أو مانع، ولكن في مقام التنفيذ وحيث أن هذا العالم عالم التضاد والتزاحم فلسوف تتعرض للتزاحم أيضاً. ولهذا فإن تكليف ولي المسلمين يقضي، أثناء الدفاع عن الأحكام الإسلامية، على التزاحم الذي سينشأ أثناء إجراء الأحكام الإلهية على أساس المعرفة التي يمتلكها في مجموع القوانين الإسلامية ويحكم في النهاية بترجيح الأهم على المهم وتنفيذه.
وترجيح الأهم على المهم لا يعني التخصيص والتقييد ولا النسخ والتبديل في الحكم لأن هذه الأمور تعود إلى إثبات أصل الحكم في مقام الاستظهار من الأدلة، بل هو ناظر إلى مقام إجراء الأحكام الثابتة على أنها قاعدة وضابطة عامة تُعدُّ رعايتها ضرورية لأجل حفظ القوانين الإلهية التي لا تتغير في جميع المسائل ومن بينها المسائل الشخصية.
ومثاله: وجوب إنقاذ الغريق وحرمة العبور من ملك الغير. فهما حكمان شرعيان يتزاحمان في بعض الأحيان. فالعمل بأحدهما يستلزم ترك الآخر، وهنا لا خيار سوى التضحية بالمهم وإنجاز الأهم. ولكن هذا الأمر لا يعني إطلاقاً تبديل الحكم الكلي وتغييره، فالمرور على أرض الغير لنجاة الغريق ليس ملازماً لرفع حرمة الغصب، لأن حكم الحرمة ما زال موجوداً، وإن لم يلزم من ذلك الفعل العقاب مع وجود الشرط.
وفي المسائل الاجتماعية لا يحق للحاكم أن يزيد أو ينقص من أي واحد من القوانين الإلهية، وعليه أن يسلّم أمام كافة الأحكام. وإنما تكليفه كولي وأمين في مقام الإجراء للقوانين هو عند التزاحم ما بين الأهم والمهم. وخاصة عندما يوجد مزاحم لأصل النظام الإسلامي فعليه أن يؤدي الأهم ويمنع من المهم ما دام المزاحم باقياً. لهذا فالحاكم والولي على المجتمع عندما يحكم بوجوب أداء الأهم، لا يكون متميزاً عن باقي أفراد المجتمع في الامتثال لذلك الحكم. وهذا دليل على أن النظام الإسلامي هو الحاكم فوق كل الأفراد.
* الأحكام التشريعية والحكومية وحدود الثبات والتغيّر
للإنسان شأنان واحد ثبات وآخر متغير. فالشأن الثابت يرجع إلى فطرة التوحيد والروح المجردة عن المادة والتي هي فوق حدود الماضي والمستقبل ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾ (الروم/30).
والقوانين التي تتعلق بهذا الشأن قوانين ثابتة لا تقبل التغيير. أما الشأن المتغير عند الإنسان فهو المتعلق ببدنه الذي هو أرضي وزمني. فالعادات والسنن المختلفة التي نجدها بين الناس في البلدان العديدة أو في الأزمنة المتفاوتة هي التي ترتبط بهذا الشأن المتغير.
أمَّا تلك القوانين التي ترتبط بالفطرة الإنسانية فهي القوانين التشريعية التي لا تتبدل في أية حالة ومن قبل أي إنسان: "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة" (الكافي ـ كتاب فضل العلم).
وأما تلك القوانين التي تتعهد إدارة كيفية ارتباط الإنسان مع الطبيعة فإنها تعود إلى كيفية إجراء الأحكام الثابتة والدائمة كمثل مواجهة الأعداء، فالتزاحم الذي يحدث ما بين الأحكام يكون في حدود الإجراء.
والحلقة الرابطة في تطبيق تلك القوانين الأبدية على الظروف الاجتماعية المتغيرة هي الولاية بمعنى الحكومة والقيادة التي جعلت بالإرادة التشريعية لولي التشريع.
وكما أشرنا سابقاً، فإنّ جعل الحاكمية لأولياء المجتمع الإسلامي كجعل الولاية للأب هي حكم أولي إلهي.
فالحاكم الإسلامي يقوم ببركة هذا الحكم الإلهي بتطبيق القوانين الإسلامية وإجراء الأحكام الإلهية الثابتة في المجالات الاجتماعية المختلفة بما يشمل المسائل الاقتصادية كالثروات الطبيعية، الغابات، المعادن، البحار... والمسائل السياسية مثل تنظيم العلاقات الدولية، والمسائل العسكرية من قبيل الدفاع في وجه المعتدين وتجهيز الجيوش...
ولا يوجد شك في هذا المقام أن أداء مثل هذه الأمور سوف يصطدم بتزاحم المهم مع الأهم مما يتطلب تقديم الأهم بدون أن يكون هناك تقييد أو تخصيص أو نسخ أو تبديل.
فالحاكم الإسلامي يصدر الأوامر والنواهي المختلفة والمتغيرة لأجل تطبيق الأحكام الإلهية بناءً على المقتضيات الاجتماعية. وهذه الأوامر هي التي تنطلق من الحكم الأولى الإلهي الدائر بوجوب إطاعة أوامر أولي الأمر.