الشيخ نعيم قاسم
تربط زيارة آل ياسين حركة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف بأصل حركة الوجود وهو الله عزَّ وجلّ، ثم بقطب هداية البشريّة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده بأنوار الهداية الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام، لتجعلنا أمام تكامل المسير إلى سعادتنا في الدنيا والآخرة.
1. أقطاب الوجود
ورد في الزيارة: "أُشْهِدُكَ يا مَوْلايَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ"، في أرقى تعبير عن الإخلاص والتسليم لله الواحد الأحد. "وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ" الخاضع والخاشع والمسلِّم بالعبوديّة، "وَرَسُولُهُ" الذي يحمل الدين الكامل للبشرية جمعاء. "لا حَبِيبَ إِلّا هُوَ وَأَهْلُهُ"، فدرجةُ حبِّ الله تعالى للنبيّ وآله متميّزة، بما امتازوا به عن باقي البشر، فهم الخَلْقُ الأوّل في الإنشاء والدور والمقام، وهم أقطاب الوجود في ذوبانهم في حبّ الله تعالى وتطبيق تعاليمه. نفهم هذه المعاني من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ضمان الهداية اليقينيّة بالالتزام بالكتاب الكريم والعترة الطاهرة كصنوَين مترابطَين؛ إذ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: "إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّه، وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا، حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ، وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه"(1).
2. الحجّة الكاملة
"وَأُشْهِدُكَ يا مَوْلايَ أَنَّ عَلِيّاً أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ حُجَّتُهُ"، وهي شهادة شهدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا عليّ، أنتَ حُجَّةُ الله، وأنت بابُ الله، وأنتَ الطريقُ إلى الله، وأنتَ النبأ العظيم، وأنتَ الصراطُ المستقيم، وأنتَ المثلُ الأعلى"(2).
ثم تُكمل الزيارة عرض الشهادة بالأئمّة عليهم السلام، وهم حجج الله تعالى على البشر، "وَالحَسَنَ حُجَّتُهُ، وَالحُسَيْنَ حُجَّتُهُ، وَعَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ حُجَّتُهُ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ حُجَّتُهُ، وَمُوسى بْنَ جَعْفَرٍ حُجَّتُهُ، وَعَلِيَّ بْنَ مُوسى حُجَّتُهُ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَعَلِيِّ بْنَ مُحَمَّدٍ حُجَّتُهُ، وَالحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ الله. أَنْتُمْ الأوَّلُ وَالآخِرُ".
الحجَّةُ ضرورة للبشر وعليهم، فهي لهم نورٌ وهداية، ومسؤوليّة يُسألون عنها يوم القيامة.
ولولا هذه الحجّة لما بقيت الحياة كما أرادها الله تعالى على هذه الأرض، قال الإمام الصادق عليه السلام: "لَوْ بَقِيَتِ الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ"(3).
إنَّ شمول الحجّة لزمان الحياة الدنيا، بإرسال الأنبياء والرسل والأوصياء، يُحقِّق ما أراده الله تعالى منذ زمن رسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر الزمان بظهور وليّ الله الأعظم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. إنَّها حُجَّةٌ ذات سنخيّة واحدة، إنَّها الحُجَّةٌ الكاملة التي تتعدّد مسمّياتها بأسماء الأئمّة عليهم السلام، ولكنَّها واحدة في جوهرها وحقيقتها. ما أروع تعبير الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الحقيقة الواحدة: "أوَّلُنا محمّد، وأوسطُنا محمّد، وآخِرُنا محمّد"، حيث يمثِّل كلُّ واحدٍ منهم صورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بكماله ودوره وقدوته، باستثناء الوحي الذي اختصّ الله به محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام الصادق عليه السلام لزيد الشحام: "خَلقُنا واحد، وعلمُنا واحد، وفضلُنا واحد، وكلُّنا واحدٌ عند الله تعالى. فقال: أخبرني بعدّتكم؟ فقال عليه السلام: نحن اثنا عشر، هكذا حول عرش ربِّنا عزَّ وجلَّ في مبتدأ خلقنا، أوَّلُنا محمّد، وأوسطُنا محمّد، وآخِرُنا محمّد"(4).
3. إنسان بعمر 250 سنة
أنعم الله تعالى علينا بهداية الإسلام، والطريق إليها عبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام، فلم يعد لنا من عُذرٍ في التَّخلف عن ركب الإيمان. وقد غطّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام فترة زمنيّة في التواصل مع الناس وقيادتهم الظاهرة والواضحة منذ البعثة إلى إمامة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عام 260 للهجرة. فلو اقتصرنا على فترة الأئمة عليهم السلام منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة إلى إمامة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لبلغت مائتين وخمسين سنة. وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخامنئي } في عنوان كتابه التحليليّ عن سيرة الأئمّة عليهم السلام، عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أنَّه: "إنسانٌ بعمر 250 سنة"، ليشير إلى أنَّ دورهم واحد في نشر الهدى وإعلاء كلمة الحقّ، وأنَّ القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف يختزن خلاصة تجربة الأئمّة عليهم السلام، ما يجعل موقعه ودوره ونتائج حركته استثنائيّة بكلّ الأبعاد، وهذا ما يفسّر تأثيره العظيم في غيبتَيه الصغرى والكبرى، ومهمّته العظيمة في نشر العدل على مستوى المعمورة.
لمّا أنزل الله عزَّ وجلّ على نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، قال جابر بن عبد الله الأنصاريّ: "يا رسولَ الله، عَرَفنَا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرنَ الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين بعدي، أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ سميّي وكنيّي حُجَّة الله في أرضه وبقيّته في عباده ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان"(5).
4. قبل الفتح وبعده
بعد هذه الشهادة بالولاء والطاعة، والاعتراف بالحُجَّة البالغة، يأتي الحديث عن الرجعة، وهي العودة بعد الموت إلى الحياة الدنيا مجدداً. وهذا ما ورد في الزيارة: "وَأَنَّ رَجْعَتَكُمْ حَقُّ لا رَيْبَ فِيها". وقد ورد في الرَّجعة آيات وروايات كثيرة تؤكّدها. ولسنا هنا في مقام إثباتها، ونكتفي بما ذكره الإمام الصادق عليه السلام بأنّها تشمل فئتين من الناس: "إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف من مُحِّضَ الإيمان محضاً أو مُحِّضَ الكفر محضاً، فأمَّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب"(6).
يشهد الزائر بوجود الرَّجعة، ولكنَّها ليست فرصة إضافيّة للتعويض عن حياتنا الدنيا، فما ترتَّب على الحياة من إيمانٍ وكفر لا يتغيَّر ولا يتبدَّل عند الرَّجعة، فالمؤمن يرجع بإيمانه، والكافر يرجع مع كفره، ولذا قال في الزيارة: "يَوْمَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا".
تُذكِّرنا الزيارة بأهمية أن يؤمن الإنسان في الوقت المناسب، وفي زمن الشباب عندما يمتلك القوّة والقدرة فلا ينفع الإيمان بعد العجز، وفي زمن الصعوبات والتحدّي في مواجهة الكفر، وفي زمن انتشار الضلال حيث للهداية قيمة استثنائيّة وللدعوة إلى الله تعالى معانٍ عظيمة. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالعطاء قبل الفتح والنصر وقيمته العظيمة، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ ?ُ الْحُسْنَى وَ?ُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد: 10).
وقد خاطب الإمام الحسين عليه السلام بني هاشم في كتابه إليهم قائلاً: "أمّا بعد فإنَّ من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف لم يدرك الفتح والسلام"(7).
هنيئاً لمن انتهز الفرصة قبل أن تمرَّ مرَّ السحاب، وآمن وأطاع، واقتدى بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآل محمّد عليهم السلام قبل فوات الأوان، ليكون في ركب الهداية الإلهيّة وسعادة الدارَين.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص415.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج2، ص9.
3- الكافي، (م.س)، ج1، ص179.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج25، ص363.
5- كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص253.
6- بحار الأنوار، (م.س)، ج6، ص254.
8- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص230.