الإمام الصادق عليه السلام والمفضل
* ضوء القمر وما فيه من المنافع
فكر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك، فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيء من العمل، لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار، ولشدة الحر وإفراطه، فيعمل في ضوء القمر أعمالاً شتى، كحرث الأرض، وضرب اللبن، وقطع الخشب، وما أشبه ذلك، فجعل ضوء القمر معونة للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وأنساً للسائرين، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض، ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها، لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار، فيهلكهم ذلك. وفي تصرف القمر خاصة في مهله1 ومحاقه2 وزيادته ونقصانه وكسوفه، من التنبيه على قدرة الله تعالى خالقه، المصرف له هذا التصريف، لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون.
* النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى متنقلة
فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها، فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها، فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق، كالنملة التي تدور على الرحى، فالرحى تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال، والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفتين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها... فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه للإهمال، من غير عمد ولا صانع لها ما منعها كلها أن تكون راتبة3 أو تكون كلها متنقلة، فإن الإهمال معنى واحد، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير؟ ف
في هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير، وليس بإهمال كما يزعم المعطلة، فإن قال قائل: ولم صار بعض النجوم راتباً وبعضها متنقلاً؟ قلنا: إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المتنقلة، ومسيرها في كل برج من البورج، كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم، بتنقل الشمس والنجوم في منازلها، ولو كانت كلها متنقلة، ولم يكن لمسيرها منازل تعرف، ولا رسم يوقف عليه، لأنه إنما يوقف عليه بمسير المتنقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها. ولو كان تنقلها بحال واحد لاختلاط نظامها، وبطلت المآب فيها، ولساغ لقائل أن يقول أن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا، ففي اختلاف سيرها وتصرفها وما في ذلك من المآب والمصلحة، أبين دليل على العمد والتدبير فيها.
* منافع الجبال
انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة، التي يحسبها الغافلون فضلاً لا حاجة فيها. والمنافع فيها كثيرة، فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها4 لمن يحتاج إليها، ويذوب ما ذاب من الثلج فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظيمة، وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل، ويكون فيها كهوف ومعاقل للوحوش من السباع العادية، ويتَّخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء5، ويوجد فيها معادن لضرب من الجواهر، وما فيها خلال أُخر لا يعرفها إلاَّ المقدّر لها في سابق علمه.
1 مهله: ظهوره.
2 محاقه: آخر الشهر، أو الليالي الثلاثة الأخيرة منه.
3 راتبة: ثابتة غير متحركة.
4 القلال: أعلى الجبل (رأس كل شيء).
5 الأرحاء: جمع رحى وهي الطاحون.