أديب كريم
مكانة القدس في الأساطير اليهودية: لقد آمنا طوال آلاف
السنين بنبوءات أنبيائنا... وبيننا أشخاص يؤمنون بمجيء المسيح الذي سيجمع يهود
العالم، أمواتاً وأحياءً في الأرض المقدسة "إن ما خلق دولة إسرائيل هو رؤيا الخلاص
المسيحي المنتظر لدى شعب مشتت في كل أنحاء العالم... وتلك الرؤيا تمتد جذورها إلى
أعماق الشعب اليهودي".
بهذه الكلمات المتضمنة في خطابه الشهير الذي ألقاه في العام
1967 يستحضر الزعيم اليهودي "ديفيد بن غوريون" أكذوبة اليهود التاريخية المتمثلة
بيهودية القدس المقدسة، في محاولة يائسة منه وممن سبقه وخلفه لإقحام تلك الأكذوبة،
بثوبها الخرافي وروحها التوراتية وعنصريتها التلمودية، في روح العصر على أنها حقيقة
ملموسة من حقائق الدين والتاريخ. وهذا الخطاب، بنبرته العاطفية ولونه الفجائعي
والإيماني (الإيمان الثابت - مجيء المخلص - اجتماع الشعب المشتت) يستمد خصوصيته
المضامينية من إرث توراتي عريض نهض على مزاعم وأكاذيب هدفت إلى تضليل العقل عن
إدراك المسلمات التاريخية والإلهية لجهة هوية القدس وإنتمائها. وعلى الرغم من أن
الأدلة التاريخية القاطعة تذهب إلى أن اليهود لم يدخلوا مدينة القدس ولا هم قُدسوا
أو اختيروا في معبدها، إلا أن النصوص التوراتية والأخرى في العهد الجديد، التي لم
تكن هي الأخرى بمنأى من أصابع التحريف الحاخامي، تتناول مدينة القدس على أنها لب
المسألة اليهودية وجوهرة الحلم اليهودي، اختارها الرب لتكون مسكناً آمناً وأبدياً
لشعبه المختار. وفي حديث رباني إلى النبي داود ورد في التوراة يقول:
"فيكون إذا تمت
أيامك لتنصرف إلى آبائك، وأقمت من يليك من نسلك الذي يكون من بنيك وأقررت ملكه، إنه
هو يبني لي بيتاً وأنا أقر عرشه إلى الأبد".
وفي الإصحاح الثالث من سفر رؤيا يوحنا
اللاهوتي من كتب العهد الجديد جاء ما نصه: "من يغلب فسأجعله عموداً في هيكل إلهي،
ولا يعود ويخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة
النازلة من السماء من عند إلهي". وفي إشارة أخرى إلى العنصر العاطفي الذي استغلته
الحاخامية اليهودية للتأثير في مشاعر وعواطف اليهودي تجاه ما يُزعم أنه جزء من
تاريخ ووجدان اليهودي ورمز من رموز خلاصه وأمانه (القدس نموذجاً)، ورد في 137
الخطاب التوراتي التالي، الذي قيل أنه كان ولا يزال من أكثر النصوص التوراتية
استثارة للعواطف والمشاعر اليهودية شطر مدينة "أورشليم". "هناك جلسنا قرب أنهار
بابل، وأخذنا نبكي حين تذكرنا صهيون، إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني وليلتصق
لساني في حلقي".
وقد شكلت هذه النصوص البنية الذهنية لدى اليهود وثوابت الذاكرة الحية التي تجلت مع
مرور الزمن في نزوع إلى ممارسة الأعمال التآمرية والاستغلالية والإجرامية لتحقيق
حلمهم الزائف في "العودة" إلى "أورشليم" كمنطلق مزعوم لتحقيق العدل "اليهودي" في
العالم. وفي صولة دامية من صولات الباطل، شاءت إرادة الأحداث العمياء أن تتحول
الأكذوبة اليهودية إلى حقيقة واقعية، وتصبح مدينة القدس أسيرة داخل أسوار الأطماع
اليهودية، وهدفاً قائماً للمحاولات المستمرة والحثيثة لتهويدها. القدس ومحاولات
التهويد: "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء،
فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسوف أدمر الآثار التي مرت عليها
القرون". بهذه الصفاقة، المبتنية على الحس الالغائي والاختزالي والتعسفي، يؤسس مؤسس
الحركة الصهيونية "تيودور هرتزل" في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر بالـ 1897م. لسياسة
تهويد القدس حتى قبل أن يتسنى لليهود اغتصاب أرض فلسطين. ومشروع تهويد القدس منذ
النكبة الكبرى عام 1948 ونكسة 1967 جار على قدم وساق، وعلى أكثر من محور وصعيد.
وتهدف عملية التهويد التدريجية، كما بات واضحاً، إلى فرض معطيات ديمغرافية
وجيوسياسية ومفاهيمية على الأرض تدخل ضمن محاولات منهجية لتحويل مدينة القدس
بحدودها البلدية الموسعة إلى عاصمة أبدية للكيان الغاصب. ويمكن النظر إلى عملية
التهويد على أساس المحاور الرئيسة التي تجري عليها.
1 - المحاولات الاستيطانية: حيث لجأت الحكومات
اليهودية المتعاقبة إلى زرع بؤر استيطانية في قلب القدس ومحيطها ولأهمية هذه
المدينة ودورها الرمزي الملفت في الحلقة اليهودية استثنيت منطقتها من قرار تجميد
الاستيطان الذي اتخذه ما يسمى بحزب العمل عام 1992. وحتى هذا التاريخ كانت المسيرة
الاستيطانية قد قطعت شوطاً طويلاً، تمثل في خلق نحو 15 موقعاً استيطانياً وأكثر من
170 ألف مستوطن يهودي في القسم الشرقي فقط من المدينة المقدسة.
2 - محاولات الترحيل التي جرت بموازاة النشاط الاستيطاني:
وتجسدت في أساليب وسياسات متعددة منها القانوني والتنظيمي والقضائي والتكتيكي
الإداري وأدت إلى ترحيل آلاف الفلسطينيين من ديارهم وتركهم في ضيق من أمرهم على
وضعهم القانوني ومستقبلهم كسكان أصليين رحلوا من مدينتهم التي ولدوا فيها. وأما من
بقي منهم بانتظار قرار سلخه عن أرضه ومدينته، فإنه يكابد معاناة الصمود في وجه
سياسات التضييق والتمييز القاسية. وللمثال يحضرنا كلام لليهودي "تيدي كوليك" الذي
يوجز فيه كل ما قدمه للعرب خلال رئاسته لبلدية القدس التي امتدت لربع قرن بقوله: "إننا
لم نعمل شيئاً واحداً يفيد العرب، لم نبنِ لهم مدارس أو أسواق أو منتديات ثقافية،
إن الانجاز الوحيد الذي قدمناه لهم: شبكة مجاري، وهل تعلمون لماذا؟ هل تعتقدون أن
هذا لصالحهم؟ ولرفعة مستوى حياتهم؟ كانت هناك حالات كوليرا وعندما شعر الجمهور
اليهودي بالذهول قمنا بإنشاء المشروع"!
3 - محاولات التهويد الثقافي والاجتماعي: وهي
الأخطر وقد بدأت ملامحها بالظهور مع مطلع هذا العام. وهي تتلخص في مجموعة من
النشاطات ذات الطابع التربوي والاجتماعي، تتولاها مؤسسات يهودية ضمن استراتيجية
اختراق المجتمع الفلسطيني وتلقينه مفاهيم مسمومة كمثل مفهوم نبذ العنف وضرورة
الانفتاح على المجتمع اليهودي وبناء شبكة علاقات مختلفة مع أبنائه. ومن المفيد
تسليط الضوء على بعض أهم المؤسسات التي تتولى إدارة مشاريع تهويد مشاعر وعقول
الفلسطينيين المقدسيين.
* مؤسسات التهويد
1 - مؤسسة "القيادة الشابة". وتتولى إدارة مشروع تربوي قوامه العمل على انتقاء
مجموعة من الطلاب الاعداديين والثانويين العرب وتلقينهم دروساً مجانية تتمحور حول
مفهوم فصل الدين عن الحياة، ومفهوم الانفتاح على المجتمع اليهودي، ويتخلل ذلك
القيام بنشاطات ترفيهية وزيارات متبادلة وعلاقات فاضحة مع أترابهم من اليهود في
المؤسسة المشابهة داخل الكيان اليهودي.
2 - مشروع "الأمل الدليل" ويستهدف مكانة الأم الفلسطينية من خلال بعض النشاطات
المهنية والتثقيفية الآيلة إلى "توعية" الأم المربية وتبصيرها بأساليب التعامل
النفسي والتربوي والمادي في منزلها، وهذا يحدث من خلال لقاءات دورية وزيارات
متتالية من نساء يهوديات مثقفات وذوات اختصاصات متعددة إلى منازل الفلسطينيين.
3 - مشروع إقامة ورشات عمل مهني مثل الخياطة والكمبيوتر وغيرها، بغية استمالة جيل
الشباب الفلسطيني المقدسي، وتأهيله مهنياً ومن ثم دفعه تحت جو من المغريات إلى
الانخراط في المكنة المهنية للمجتمع اليهودي، وبموازاتها يتم إغراقه في مستنقع
الفساد الأخلاقي.
يبقى أن نشير أخيراً إلى أخطر حلقة من حلقات تهويد القدس والمتمثلة في المحاولات
اليهودية الدائبة لهدم المسجد الأقصى واستبداله بالهيكل المزعوم. وإذا كان الجنرال
"عوزي نركيس" الذي كان خلال حرب 67 قائداً للواء المركز في الجيش الإسرائيلي لم
يستجب وقتذاك لقرار حاخام الجيش اليهودي "شلومو غورن" بتدمير المسجد الأقصى. حين
قال هذا الأخير للأول: "عوزي. هذا هو الوقت المناسب لأن ندخل 100 كيلو غرام متفجرات
في قبة الصخرة المشرفة، فنتخلص منه مرة واحدة وللأبد". نقول إذا كان هذا الجنرال لم
يستجب لحظتها لرأي الحاخام "شلومو" لأسباب اعتبارية آنية، فإن محاولات هدم المسجد
استمرت، مدعومة بقرار ودعم رسميين، وما حفر النفق تحت المسجد بحجة البحث والتنقيب
عن بقايا آثار يهودية مزعومة إلا خطوة مدروسة في هذا السياق. وفي العام الفائت نشرت
إحصائية تشير إلى وجود عشر منظمات يهودية تدفع باتجاه هدم المسجد الأقصى. وقد جاء
في التقرير (يديعوت أحرونوت 7 - 1 - 2001) أن "الدولة تمول بصورة دائمة نشاطات
مراكز ومؤسسات تعمل على تجديد الإيمان بالهيكل وتعقد مؤتمرات لأنصار الهيكل" وهذه
المنظمات هي: أنصار الهيكل، حركة إقامة الهيكل، معهد الهيكل، الحي القيوم، آل هار
هامور، نساء من أجل الهيكل، من البداية، مشمورت هكرهنيم، محكمة الهيكل، منتدى القدس.
(1) الحياة 10 أيلول - 2001 عدد 14057.
(2) الحياة 27 حزيران 1998 - عدد 12898.
(3) الحياة 15 أيلول 1995 - عدد 11894.
(4) شؤون الشرق: الخميس 1 / 1 / 1998 عدد 6974.
(5) مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1997، عدد 31.
(6) دورية "القدس الاقتصادي" عدد 2.