السيد سامي خضرا
مفهوم "الحب" من المفاهيم التي حُرِّفت وأصبح لها أكثر من
معنى بل ربما معاني مغايرة لمقصدها الأساسي. والمفاهيم التي باتت تُفهم خطأً بسبب
العولمة الإعلامية، والاستشراق الممنهج، وغلبة الأعداء... هي كثيرة كمفهوم الشجاعة
والجرأة، والزهد، والعلم والانفتاح والتمدُّن والحضارة والحرية،... أما الحب في
الإسلام، فهو الحالة النفسية الشعورية التي تتوجه إلى شخص أو مجموعة على أساس إلهي
محض، تماماً، كما أنَّ البغض لا يكون إلاَّ بناءً على أوامر إلهية محضة، تعبّداً
للَّه عزَّ وجلَّ، ورِقاً. بتعبير آخر، إنَّ الحب في اللَّه سبحانه، والبغض في
اللَّه عزَّ وجلّ، من عناوين الإسلام الأساسية التي لا يستقيم الإيمان إلاَّ بها،
بل لا يكون المؤمن مؤمناً إلاَّ بها. وغفلة النَّاس عن هذا العنوان الأساسي، لا
يؤثر على موقعه في دين الإسلام، كما هي الكثير من المفاهيم المُغيَّبة أو
المعطَّلة، والتي سوف تعود يوماً، عندما تُملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً
وجوراً. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "مَنْ أحب للَّه، وأبغض للَّه، وأعطى
للَّه، فهو مِمَّن كَمُلَ إيمانُه".
وفي نص آخر عن مولانا الباقر عليه السلام قال: "إذا أردتَ أن تعلم فيك خيراً،
فانظر إلى قلبك، فإن كان يُحبُّ أهلَ طاعة اللَّه، ويُبغض أهل معصية اللَّه ففيك
خيرٌ واللَّه يُحبُّك، وإن كان يُبغضُ أهل طاعة اللَّه ويُحبُّ أهل معصيته، فليس
فيك خير واللَّه يبغضك، والمرء مع مَنْ أحب" (الكافي باب الحب حديث 1). ولا شك
أنَّ هذا الحب ينسحب على الأسرة كلِّها، خاصة إذا ارتوى بعذب أخلاقيات الإسلام
المختلفة، والتي يُصرُّ الأعداء على سلبنا إياها، وهي أغلى ما نملك، والتي منها:
صلة الرحم، الرأفة، التراحم، التزاور، البر بالوالدين، إجلال ذي الشيبة المسلم،
إجلال الكبير، التعاطف. (راجع الكافي الشريف، الجزء الثاني).
إنَّ شجرة "الحب"
الحقيقي بحسب مفهوم الإسلام، وما يتفرَّع عنها من أغصان، هي التي جعلت الأسرة
مترابطة متماسكة، يُجلُّ صغيرُها كبيرَها، ويرأف كبيرُها على صغيرها. فتماسكت
الأُسرة وتحابَبَتْ وكان العطفُ والحنان والرعاية والتكافل هو الأساس والحاكم، إلى
درجة النهي عن قول "أُفٍ" أو النظرة الحادة المؤذية إلى الوالدين. بل أكثر من ذلك:
شاء اللَّه جلَّ جلاله أن يسري الحب الإلهي الذي أمرنا به إلى تمام الأرحام
والقربات، فذكرت الأدعيةُ مراراً جُمل التوفيق والرحمة والغفران "للأهل والولد".
"رب اغفر لي ولوالدي رب ارحمهما كما ربَّياني صغيراً، واجزهما بالإحسان إحساناً،
وبالسَّيِّئات عفواً وغفراناً...". بل لا ينتهي حقُّهما بالموت، فالمسنون
الوارد في حقِّهما، الدعاء لهما، وحتى الأجداد والجدات فهم آباء وأمَّهات أيضاً
الدعاء لهم، والترحم، والصدقة وزيارة قبورهم، وحب من كانوا يُحبُّون في حياتهم...
ومهما كان الفعل في جنبهم عظيماً، بَقِيَ في مقابل حقِّهم صغيراً.
ويرى المتتبِّع لتفصيل الواجبات والمستحبات التي حثَّ الشرع الإسلامي على تطبيقها
على صعيد الأقارب والأرحام، أنَّ هناك أموراً يتميَّز بها هذا الدين دون الأديان
والعقائد "والحضارات" الأخرى. فالبسمةُ مطلوبةٌ بين أفراد الأسرة، خاصة تجاه الأب
(وإن علا) والأم (وإن علت)، كذلك المصافحة، وتقبيل الأيدي، التي هي عادة أصبحت شبه
مهجورة في أيامنا هذه، وخدمتهم، وعدم مخاطبتهم بطريقة خشنة أو جافة، وهو الذي بدأ
ينتشر للأسف في مجتمعاتنا تقليداً لمجتمع الكفار، وكفايتهم بالمال مع القدرة دون أن
يطلبوا ذلك. بل من روائع دين الإسلام عنوان "بر الوالدين" وطاعتهم، إلى حدِّ أنْ
كان العقوق لهما معصية كبيرة، لا يأمن صاحبها في دنياه فضلاً عن أخراه. وعندما
تحدَّث الإمام الصادق عليه السلام عن الإحسان للوالدين، قال: "الإحسان، أن تُحسن
صحبتهما، وأن لا تُكلِّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا
مُسْتَغْنيين" (الكافي الشريف، ص157، حديث 1). حتى ورد أنهما لو ضرباك فقُل
لهما "غفر اللَّه لكما" (المصدر نفسه). وفي شتى الحالات "لا تملأ عينيك من النظر
إليهما إلاَّ برحمة ورِقَّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما" (المصدر نفسه).
أمَّا
فيما يتعلَّق بسائر أفراد الأسرة، فالحب بينهما حقيقي، وليس لمصلحة آنية أو عابرة،
لأنَّ المنطلق إيمانيٌ ملزمٌ، له آثار في الدنيا والآخرة. وورد عن الباقر عليه
السلام: "إنَّ الرحم معلَّقةٌ يوم القيامة بالعرش تقول اللهم صِلْ مَنْ وَصَلني
واقطعْ مَنْ قطعني". فالأسرة المسلمة علاقتها مع بعضها البعض انصياعٌ لأمر
اللَّه جلَّ جلاله، وخضوعٌ لإرادته، وتقرُّبٌ لمرضاته جلَّ وعلا، فالكلُّ يُحب
الكل، حباً في اللَّه ورغبة في الثواب، فأفراد الأسرة الإسلامية يطمئنُّون أن
اللَّه سبحانه مريدٌ لهذا الفعل، فيفعلون، أو مُريدٌ لترك هذا الأمر فيتركون. وقد
ورد في الأحاديث الكثيرة جداً، أنَّ صلة الرحم تُنمِّي الأموال، وتدفع البلوى،
وتطيل في العمر، وتُهِّون الحساب وسكرات الموت، وتزيد في الرزق، وتُعمرِّ الديار.