الشيخ الشهيد راغب حرب رحمه الله
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فإنّ راية
الحسين عليه السلام مشفعة مرفوعة، يحمِلها الصالحون والمتقون من عباد الله،
فالمتّقون هم الفئة المؤهّلة باستمرار لأن تكون الشاهدة الشهيدة على الناس، وعلى
الأمم، وعلى الدنيا.
* رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهيد الأول
لقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة أمةً وسطاً -كما عبّر في الكتاب الكريم-
لتكون شهيدة على الناس، أي نموذجاً حضاريّاً متقدمّاً، تنطلق إليه الأمم، فتتعلّم
منه، وتمشي على نهجه، ليكون هذا الإسلام بهذه الطريقة نوراً وهدىً للعالمين. وقد
جعل الله سبحانه وتعالى فيها أيضاً رجالاً ونساءً شهداء، فبعضنا شهيد على بعض،
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قمّة الشهادة علينا، وعلى الناس. وقد جعلنا
الله الأمة الشهيدة، وجعل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشهيد الأول، ومن
بعده أهل العصمة الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً (1).
ثمَّ يأتي المتّقون في المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، وهم يتدرّجون في مراتب
متعددة فيما بينهم، فبعضهم يصل به أمر التقوى إلى درجة قريبة ولصيقة بالعصمة،
وبعضهم يكون في أوّل درجات هذه المرتبة العالية، ولكن أول درجاتها ميمونة ومباركة
أيضاً.
فاجتهدوا -عباد الله- لتكونوا شهداء، في خطِّ الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم. اجهدوا بغية أن تكونوا أتقياءً، فإن كنتم أتقياء، كنتم مع الحسين حقيقةٍ
وفعلاً وأجراً. ونحن في ثقافتنا الإسلامية نقتدي بما علّمنا إيَّاه أمير المؤمنين
عليه السلام عندما قال لأحدهم بعد أن فرغ من إحدى حروبه، وكان هذا قد سأله حصَّةً
من العطاء لأخيه: "أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدْ
شَهِدَنَا، ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ
الرِّجَالِ، وأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ
الإِيمَانُ"(2).
* دمهُ لا يجف
تشير ثقافتنا الإسلامية إلى أنَّ الزمن يُختصر في عين المؤمن؛ لأنَّه ينظر بعين
الله كما جاء في الحديث، فمن زمان إبراهيم عليه السلام وحتى الآن، تتواصل الأجيال،
ولا يستطيع المكان ولا الزمان أن يقفا حائلاً في وجه تواصل المؤمنين والمتقين.
إذاً، لا يستغربنّ أحدٌ إن دُعِيَ لأن يكون من أنصار الحسين عليه السلام، فالحسين
عليه السلام شهيدٌ، ودم الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله، فإنَّه
ينمو ويزكو، ولا يمكن أن يجف!
إنَّ الدم الذي يسقط إلى الأرض يجف، ويتحول إلى جزء من التراب، ومن الأرض، وأمَّا
الدم الذي يسقط في يد الله، فهو لا يجف، بل يصبح شاهد صدق.
نحن نعرف أيضاً أن كل شيء يسقط في يد الله يربو وينمو، فالكلمة الطيبة تصَّعَّد إلى
الله، فتكون كما قال القرآن الكريم:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ﴾
(إبراهيم: 24)، فأصلها ثابت، لا
تزول، وفرعها في السماء، تتطاول على الأحقاب والسنين. وحتَّى المال الذي يسقط في يد
الله تبارك وتعالى يربو وينمو، وقد شبَّهه الله بالحبّة التي تنبت سبع سنابل
﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ
سَنَابِلَ﴾ (البقرة: 261)، وفي موضع آخر بالحبّة التي سقطت على ربوة،
فأصابها وابل، أي: مطر شديد، فإن لم يصبها وابل، فطلّ، أي: مطر خفيف، ومع هذا، تؤتي
أُكُلَها
﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا
وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ (البقرة: 265).
* سقط بيد الله
الحبّة إذا سقط عليها المطر الشديد تنمو وتُؤتي أُكلها ضعفين كما يذكر القرآن
الكريم، وإذا سقط المال بيد الله، فإنَّه يربو ويزكو وينمو، فكيف هي الحال مع الدم
إذا سقط بيد الله عزّ وجلّ؟
يتحدّث أحد الأئمة عليهم السلام عن حال الحسين عليه السلام عندما ذُبح ولده الرضيع،
فيقول: وضع الحسين عليه السلام يده تحت منحر الطفل حتى امتلأت دماً، فخضَّب بها
وجهه الشريف ولحيته، وقال: "هكذا ألقى الله، وأنا مخضَّبٌ بدمي"، ثمّ أخذ
قبضة أخرى من دم الطفل، ورمى بها إلى السماء قائلاً: "اللهم إن كان هذا يرضيك،
فخُذ حتّى ترضى، اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح". يقول الإمام
الباقر عليه السلام: "والله، ما سقط من ذلك الدم قطرة واحدة إلى الأرض"(3)؛
وهذا كناية عن تقبُّل الله لهذا الدم. فإنَّ المسألة أبعد من علاقة الجاذبية بالجسم
وانجذابه إلى الأرض، فالمسألة هي أن الله تقبَّل، وقد سقط الدم كلّه في يده، فلما
سقط الدم في يد الله، أمطر به الدنيا جيلاً بعد جيل.
* يهطل مع كل قطرة مطر
يُعبّر أحد المؤرخين عن مرحلة ما بعد مقتل الحسين عليه السلام، فيقول: "لقد كان دم
الحسين عليه السلام تحت كل حجر ومدر"؛ وهذه كلمة تشير إلى انتشار هذا الدم واتّساعه
ونموّه.
أصبح هذا الدم شريكاً في دماء المؤمنين في كل جيل، يحرك انفعالاتهم، فيقفون في وجه
الظلم والباطل والكفر، من دون أن يفكروا طويلاً في موقفهم ونتائجه، فعندما سقط في
يد الله، كبُر وازدهر بالأتقياء والتقيَّات عبر التاريخ، وإذا بزينب عليها السلام
تصبح صورةً نموذجيةً كبرى للعديد من نسائنا المؤمنات. ولقد كانت صورة بنت الهدى في
عصرنا صورةً متصلةً بصورتها إلى حدٍّ بعيد جدّاً، وكان الحسين عليه السلام في دهرنا
وأيامنا متجسّداً في حفيده الكريم العظيم، عبد الله الخميني قدس سره.
انتقل هذا الدم في أجساد الأتقياء وقلوبهم، وهو يهطل مع كل قطرة مطر، فنحن نذكر
الحسين عليه السلام مع كل صلاة، ومع كل شربة ماء نبرّد بها غليلنا، ومع كل لحظة من
لحظات القمْعِ والقهر، فنتخذ من سيرته دروساً نلقّنها لأبنائنا على الدوام.
يجب أن نُعدّ أنفسنا بالتقوى من أجل أن نتواصل مع الحسين عليه السلام، وأن ندخل
بابه الواسع، ونركب سفينته التي تسير بالناس إلى النجاة، فبالتقوى يمكننا أن نربح
الدرجات العليا في الدنيا والآخرة.
ألا ترون أن الله وعد المتقين جزيل الثواب، وقبول العمل، وواسع الرزق، وبأن لا
يصيبهم الغمّ ولا الحزن ولا الخوف؟! ألا ترون أنّ الله وعد المتقين الفرج، فقال:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً﴾ (الطلاق: 2-3)؟!
ألا ترون أن الله يحدثنا عن مواقف الناس في يوم الدين، فيقول:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133)،
ويقول في موضع آخر:
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الشعراء: 90)؟!
إن التقوى هي التي تمكّننا من أن نحصل على جميع هذه المراتب، وتمكّننا من أن نحمل
بطاقة انتساب إلى الثورة الحسينية، فنستمرّ بها، وتستمرّ بنا، حتّى تصل إلى الأجيال
القادمة بالقلب واليد واللسان، فلماذا لا تكون التقوى هدفاً نسعى إليه؟! ولماذا لا
تكون هدية نتهاداها؟ ولماذا لا تكون شيئاً نبحث عنه بأصابعنا، وهي من أيسر الأمور
التي وجّه الله عباده إليها؟
لقد جعل الله لكل شيء شروطاً، فجعل للرزق والنصر والنجاح شروطاً، يأتي على رأسها
الصبر، والعديد من الناس لا يتحمّلونه، ولكنَّ أقل الشروط التي جاءتنا هي التقوى.
إذا طلب الصادق التقيّ من الله شيئاً سمع دعاءه، ولا يسمع دعاء الكاذبين، إذْ كيف
يصدّق حديثهم؟
* سرّ الاستجابة
إذا قرع الصّادق باب الله، فتح له، وإذا دعاه، استجاب له، وربَّما يقول بعض الناس:
هل من المعقول أن يكون الصّدق هو سرّ استجابة الدعاء؟ نعم، إنَّ الله يسمع من كل
صادق دعاءه، وإذا ما أجّل الاستجابة، فلمصلحة: "ولعل الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي
لعلمك بعاقبة الأمور"(4). قد ندعو الله في حالات كثيرة بما ليس فيه مصلحة لنا.
وقد دعا أهل بدر الله تبارك وتعالى يوم وعدهم إحدى الطائفتين أنّها تكون لهم النصرة
عليها: طائفة مؤلّفة من ألف مقاتل، وهي قوّة مكة، وطائفة أخرى عبارة عن ثلاثين
شخصاً يسيرون في قافلةٍ تجاريَّة، وقد تمنّى الجميع مواجهة القلَّة، إذ يقول الله
تبارك وتعالى في ذلك:
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ
دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 7)، فلم يستجبِ
الله تعالى لهم، وإنَّما نصرهم على الكفار، لأنَّ المصلحة الكامنة وراء ذلك أكبر من
مصلحة استيلائهم على القافلة.
قد يؤجّل الله استجابة دعاء الصادق لمصلحته، ولكنَّه لا يمكن أن يوصد بابه عن
الصادقين إذا فكروا.
عباد الله، ادخلوا باب التقوى بصدقٍ، فهو مفتوح، يدعو إليه رب العالمين الناس
صباحاً ومساءً:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53)، ?فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ (نوح: 10-12).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنّا سيئاتنا، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين
والمسلمات، وعجّل فرج قائدنا وإمامنا الحجة المنتظر، واجعلنا من أنصاره وأعوانه
والمستشهدين بين يديه،
﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل: 90).
1-
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33).
2- نهج البلاغة، خطبة 12.
3- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، ص60.
4- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج1، ص136.