الشيخ خضر الديراني
يُعتبر مالك الأشتر من أشجع العرب وقد صنفه الكثير من العلماء والكتّاب والمؤرخين
في مقدمة الطبقة الأولى من شجعان العرب، وذكر بعضهم أن منظر الأشتر في لامة حربه
وعدّتها يثير الرعب في النفوس، وكانت ترتعد فرائص صناديد العرب منه عند لقائه، ومما
يؤكد شجاعة وبأس مالك الأشتر أنه شارك في أكثر الفتوحات الإسلامية إن لم يكن الكل
من مصر إلى الشام إلى بلاد الروم إلى فلسطين والعراق وتركيا. وقد شارك في كل الحروب
التي خاضها أمير المؤمنين عليه السلام مع مناوئيه وكان بيضة قبان جيش علي بن أبي
طالب ففي معركة صفين عندما منع جماعة معاوية جيش الإمام علي عليه السلام عن الماء
وضجر الجيش من العطش وأصابه الإعياء طلب الإمام عليه السلام من مالك الأشتر أن يزيح
جيش معاوية عن شريعة الماء وكان عمر مالك آنذاك قد جاوز الستين عاماً، وقد خاض عدة
مبارزات مع أهم فرسان العرب وهزمهم ويروي الطبري قصة منازلة الأشتر لأحد العماليق
من جيش الشام عن أحد شهود تلك الواقعة حيث يقول (فخرج إلينا رجل ولله ما رأيت
رجلاً قط هو أطول ولا أعظم منه فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه أحد إلا الأشتر
فاختلفا ضربتين فضربه الأشتر فقتله وايم
لله لقد كنا أشفقنا عليه وسألناه ألا
يخرج إليه).
قال علي بن أبي طالب عليه السلام في حقه: "لله در مالك وما مالك، لو كان جبلاً
لكان فنداً، ولو كان حجراً لكان صلداً". ومن صفاته الكريمة في ساحة المعركة أنه
لا يطلب المبارزة لأنه سمع الإمام علياً عليه السلام ينصح قادته وأبناءه ومن معه
بعدم طلب البراز، لأن من يطلبه فهو باغ والباغي مقتول لا محالة، ولذلك فقد كان
الأشتر يلبي طلب النزول والمبارزة وكان يُنهي خصمه إما مقتولاً وإما هارباً بين
يديه. ولم تقتصر مكارم الأشتر على القوة والشجاعة والبأس بل كان عالماً نافذ البصر
والبصيرة صاحب رأي سديد وقول رشيد وكان الإمام علي عليه السلام يعطيه إذناً، وكان
منقاداً منصاعاً بكل وجوده لإمامه وقائده وهذه ميزة قل نظيرها عند الشجعان حيث أن
الشجاعة والبأس غالباً ما تُخرج صاحبها عن جادة الاعتدال وتدخل به ساحة البغي
والظلم نتيجة الاغترار الزائد بالنفس، أما مالك فقد كان مالكاً لزمام نفسه مروّضاً
لها على طاعة لله عزّ وجلّ وطاعة وليه. وهذا ينم عن السريرة التي كان يمتلكها
هذا الرجل وعن الإيمان العميق الذي يحمله في قلبه وعقله، ويمكن استكشاف عظمة هذه
الشخصية من كلام الإمام علي عليه السلام عنه في كتابه الموجه إلى أهل مصر
يُعْلِمُهم فيه بأنه خلَّف عليهم مالكاً الأشتر. فيقول: (... إني قد بعثت إليكم
عبداً من عباد
لله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعداء حذارِ الدوائر من أشد
عبيد لله بأساً وأكرمهم حسباً أضر على الفجار من حريق النار وأبعد الناس من دنس
أو عار... فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري فقد آثرتكم به على نفسي نصيحةً لكم...).
وكذلك عندما نقف أمام عهده عليه السلام لمالك الذي يعتبر من أهم الوثائق السياسية
والإدارية والحقوقية والإنسانية عبر العصور والأزمان ونرى عظمة شخصية المخاطب به
على المستوى العلمي والإداري والسياسي والحقوقي وإلا لما خوطب بها هو دون غيره من
الولاة على الأمصار، وهناك الكثير من الشواهد التي يمكننا سوقها على ذلك إلا أن
أبرزها هو موقفه الشجاع عندما أوشك أن يُلحق الهزيمة بمعاوية وجيشه فاندفع معاوية
إلى الخديعة التي قام بها من خلال توجيه عمرو بن العاص برفع المصاحف الذي أدى إلى
وقوع الفتنة داخل جيش الإمام علي عليه السلام وطلب بعضهم إليه أن يرسل للأشتر أن
يوقف القتال وإلا فولله اعتزلناك وقتلناك فأرسل الإمام إلى مالك يطلب إليه وقف
القتال ويقول له أقبل فالفتنة قد وقعت، فطلب مالك أن يمهلوه عدوة فرس لحسم المعركة
ولكنه لم يُعطَ ذلك فاستجاب لأمر الإمام علي عليه السلام وهو قاب قوسين أو أدنى من
الوصول إلى قبة معاوية وإحراز النصر، وهنا يبدي شجاعة نادرة هي أهم من شجاعة الضرب
بالسيف وهي الانقياد والطاعة لأولي الأمر فهدفه أن يؤدي تكليفه الإلهي.
ونقل ابن أبي الحديد بعد هذه القصة كلام نصر بن مزاحم: قلت
لله أم قامت عن الأشتر
لو أن إنساناً يقسم أن
لله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا
أستاذه عليه السلام لما خشيت عليه الإثم ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر: ما
أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق. ولهذه الأسباب مجتمعة كان
معاوية يتربص الدوائر بهذا الرجل لينال منه أخيراً ويحصل مالك على شرف الشهادة
ولذلك لما بلغ الخبر معاوية قال لقد كان لعلي يمينان قطعت إحداهما بصفين وهو عمار
وقطعت الأخرى وهو مالك. وكلمات أمير المؤمنين عندما وصله الخبر تدل على المقام
الشامخ لمالك حيث قال عليه السلام: "إنا
لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني
احتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر. رحم
لله مالكاً فقد كان وفَّى بعهده وقضى
نحبه ولقي ربه مع إنّا قد وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول
لله صلى الله عليه وآله فإنها من أعظم المصيبات". لقد اختصر أمير المؤمنين
شخصية مالك بعبارة تستحق أن تكتب بالذهب وتجلل بالنور "كان الأشتر لي كما كنت
لرسول لله صلى الله عليه وآله". فرحم
لله مالكاً الشجاع في طاعته والمطيع
في شجاعته يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.