تحقيق تاريخي للشيخ جعفر المهاجر
حوار: منهال الأمين
يكفي مالكًا أن يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام: "كان لي مثل ما كنتُ لرسول الله" لكي ندرك عظمة هذا الرجل ودوره الرِّسالي والمؤثِّر في مسيرة الدَّعوة الإسلامية. فالأحداث الخطيرة التي مرَّ بها المسلمون بعد النَّبي صلى الله عليه وآله، كانت حبلى بالمحطَّات الحسَّاسة والخطيرة، سقط فيها بعض الناس وجرفه تيار الانحراف، وصمد فيها بعضهم الآخر، معانداً مع الحق، وهم قلَّة، ومن هؤلاء مالك بن الحارث النخعي، المعروف بمالك الأشتر. في كتابه "مالك الأشتر، سيرته ومقامه في بعلبك"، يذهب المؤرخ الشيخ د. جعفر المهاجر إلى الجزم بأن صاحب أمير المؤمنين وقائد جيوشه، مالك الأشتر، دُفن في بعلبك. يعتمد المهاجر في اعتقاده هذا على وثائق تاريخية وروايات وتحليل منطقي للأحداث، خصوصاً تلك التي تلت تعيين الإمام علي عليه السلام مالكاً والياً على مصر، خلفاً لمحمد بن أبي بكر. وهو يؤكد أنَّ "بغيتنا من البحث أن ننقل إلى القارئ العدوى بما حدسناه. وهذا النقل هو من وظائف الباحث الأساسية...". لذا كان لنا هذا اللّقاء معه، لنقف على خلاصة ما توصّل إليه.
* ولاية مصر.. حدث غير عابر
على مستوى التحليل التاريخي، فإنَّ الشيخ المهاجر يرى أنَّ حدث تعيين الإمام عليه السلام لمالك الأشتر، والياً على مصر، لم يكن ليمرَّ هكذا في ظلِّ وجود متمرِّد كبير على أمر الإمام، وهو معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يمسك بمفصل أساس من المنطقة الإسلامية آنذاك، حيث استقل بحكم الشام، مطلقاً عهد الحكم الأموي، جاعلاً عاصمته دمشق. فكانت معركة صفين، للقضاء على هذا التمرد الأموي، محطة خطيرة جداً في فترة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام. يرى د. المهاجر أنَّ الإمام عليه السلام حين فكَّر، بعد هذه المعركة، بإرسال مالك الأشتر إلى مصر، إنما انطلق بتفكيره من قاعدة سياسية، وهي أن العراق قد أنهك عسكرياً وسياسياً، فصفّين كانت كارثة حقيقية، فقدت فيها الكوفة أفضل رجالها. وكذلك كان حال الشام، التي دفعت ثمن سياسة معاوية القائمة على الغش والخداع والتآمر. في المقابل كانت مصر الموالية للإمام في ذلك الوقت بأكثريتها، سالمة تماماً، بشرياً ومالياً وسياسياً. وذهاب مالك إليها تحديداً، مردّه إلى أنها قد تعكس الاتجاه التراجعي للحواضر الإسلامية بعد معركة صفّين. أما اختيار مالك فقد يكون لأسباب عديدة، منها:
أولاً: براعته السياسية وشجاعته.
ثانياً: قاعدته اليمانية (فهو يتحدر من اليمن).
ثالثاً: علاقته القوية بالمصريين خلال الأحداث التي سبقت تولّي الإمام علي عليه السلام الخلافة. ومعروف أنَّ مالكاً كان من المؤثرين في الأحداث، التي اشترك فيها رجال قادمون من مختلف المناطق الإسلامية آنذاك (الكوفة، البصرة،...)، إلا أن العدد الأكبر جاء من مصر. لذا، كانت فكرة إرسال مالك إلى هناك تشكّل بداية انطلاقة جديدة.
* موقف معاوية
ولكن ما الذي حصل؟ وكيف سارت الأقدار؟
يقول د. المهاجر: أُنذر معاوية، ومن خلال جواسيسه، بخروج مالك من الكوفة. وكان معاوية، الداهية فوق العادة، يعلم جيداً أنه إذا ما وصل مالك إلى مصر انتهى أمره. فما نال أهل العراق من صفّين، نال أهل الشام وأكثر. فالشام كانت متعبة أيضاً، واصطفاف مصر إلى جانب العراق سيجعل من الشام بين فكي كماشة. لذا، بادر معاوية إلى اللعب على عواطف أهل الشام بطريقة ذكية جداً. إذ كان يقف على المنبر، ويقول: يا أهل الشام إنَّ أبا تراب قد ولّى مالكاً الأشتر مصرَ، فادعوا الله ألّا يصل. وأهل الشام حين كان يُذكر مالك أمامهم ترتعد فرائصهم، فهم لا ينسون ما فعله بهم خلال معركة صفين. فكانوا يدعون الله أن يقتل مالكاً.
* بداية البحث
يقول الشيخ المهاجر: عندما بدأت استقصاء المعلومات في موضوع البحث عن قبر مالك، وجدت أن جزءاً كبيراً من المعلومات حول مالك وقبره مخفي. وخاصةً منذ أن خرج من الكوفة، امتثالاً لأمر أمير المؤمنين عليه السلام، في أن يلي أمر مصر. وعندما بدأت البحث المنهجي في الموضوع، اكتشفت كمّاً من المعلومات المتضاربة المتعلقة باللَّحظة التي غادر فيها مالك رضي الله عنه الكوفة إلى أن أُشيع خبر مقتله، ووصل إلى الإمام وقال فيه تلك الكلمات التي تعبر عن حزنه العميق لفقده. ويجد الشيخ المهاجر في تنوُّع وتضارب الروايات التي تتعلق بالطريق التي سلكها مالك، بين العراق ومصر، تأكيداً على أن هناك ما يراد إخفاؤه. ونحن عندنا قاعدة في البحث تقول: عندما يكثر الكذب فإنما هو لتغطية حقيقة معيّنة. فالحقيقة واحدة وعندما تجد عشرة روايات حول حقيقة معينة، فإن تسعاً منها على الأقل كاذبة. وهذا أمر لا يحصل عفوياً. فهناك رواية تقول إنه قُتل في القلزم (السويس اليوم).
وهناك رواية أخرى تقول: عند عقبة أفيق. ومن خلال كلام معاوية وما قاله عندما بلغه خبر مقتل مالك، نعرف أنه من تسبب في مقتله في الطريق إلى مصر، إذ قال: "يا أهل الشام، إن الله قد استجاب دعاءكم، وقتل مالكاً". وفي كلمة شهيرة عنه قال: إن لله جنوداً من عسل. في إشارة خبيثة منه إلى شربة العسل المسمومة التي قضى بها مالك شهيداً. فهو إذاً، ينقل تفاصيل عملية الاغتيال.
* قصة قبر مالك... "سيدي مالك"
أما قصة الحديث عن قبر مالك الأشتر في بعلبك، فإن المؤرخ د. جعفر المهاجر صاحب "التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان"، يروي أن علاقته بقبر مالك (قبل أن يدرك أنه مالك الأشتر) تعود إلى أيام الطفولة، "حين كنت أدرس في المدرسة الرسمية القريبة من القبر. وقد كان القبر ومحيطه من ملاعب الطفولة، وكان يقال لنا إنّ هذا قبر "سيدي مالك". من سيدي مالك؟ لا أحد يجيب، أو بالأحرى لم يكن أحد يعرف من هو على وجه التحديد. ومنذ مدة لفتت نظري نصوص واردة في مصادر قوية ومتعددة، منها للهروي صاحب كتاب "المزارات"، والآخر لابن فضل الله العمري، صاحب "مسالك الأبصار"، (وهو من أهم الكتب التي تتحدث عن المنطقة الشامية) وكلا هذين المصدرين ينصّ على أنّ هناك قبراً في بعلبك، هو لمالك الأشتر".
* الطريق إلى مصر
إنّ المشكلة الأساس التي واجهها مالك هي كيف يصل إلى مصر، وهو يعلم أن معاوية يبذل جهداً هائلاً في مراقبة الطرق وبالأشكال كافة؟ وقد عثرنا على ما لا يقل عن عشر روايات تتصل بالطريق الذي سلكه مالك للوصول إلى مصر. إذ كان يواجه مشكلة جادة في الوصول إلى هناك. فالطريق البرية ستقوده إلى الشام، لذا، كان لزاماً عليه أن يذهب من العراق إلى الحجاز، ومن ثم يركب السفينة عبر البحر الأحمر نحو مصر، ولكن طريق الحجاز مكشوف، والحركة بين العراق والحجاز ضئيلة، وبالتالي يسهل رصدها. كذلك فإن طريق البحر محصورة، والسفن يومها صغيرة، وعدد قليل من الناس يركبها، فمن الميناء يمكن ملاحظة كل المسافرين. لهذه الأسباب نحن نرى أن مالكًا اتخذ قرارًا بأن يمرّ عن طريق الشام خلسة. خاصة وأن الطريق بين العراق والشام، إلى اليوم، يستحيل ضبطها، لأنها عريضة وممتدة، والحدود طويلة جدًا وهناك مسارات عدة. إضافة إلى ذلك، فإن مالكًا قبل تكليفه بولاية مصر، كان واليًا على نصيبين، في الضفة المقابلة للقامشلي على نهر الفرات، فما كان عليه إلا أن يقطع الطريق من حلب إلى حماه إلى حمص إلى بعلبك، حيث يدخل الطريق العريض، ولا يستطيع أحد بعد ذلك رصد أثره. وهو على ما يبدو اتكل على هذا الأمر. لذا، فالظاهر أنه ضُبط، هنا، قرب بعلبك. والأرجح خارج أسوارها، إذ لم يدخل المدينة، فالناس يعرفونه جيداً. إذاً، فالمرجّح أن استشهاده كان في طريقه إلى مصر عبر الشام، مرورًا ببعلبك.
* تشكيك.. وتأكيد!
يقول الشيخ المهاجر: "كان من الطبيعي أن يكون هناك تشكيك في أصل القول بوجود قبر لمالك الأشتر في بعلبك، فالصورة الموجودة عند الناس أن مقام مالك الأشتر موجود في مصر، على الرغم من أنه ما من أساس تاريخي لهذه الصورة على الإطلاق، إذ لم يذكر أحد من المؤرخين هذا الأمر، ولم نجد لمالك قبراً في مصر"، ويضيف: "هناك فرق بين أن تأتي بفكرة جديدة، وبين أن تأتي بفكرة أقوى من فكرة أخرى. ففكرة أن مقام مالك الأشتر في بعلبك، يفترض بها، ومع احتمالاتها الأقوى، أن تبدّل الفكرة القائلة إنه في مصر ومن دون حجة بيّنة على ذلك". ولفت الشيخ المهاجر في ختام اللقاء إلى أن الإسماعيليين في مصر، ولأسباب غير واضحة ولا يقولون ما هي حجتهم، قد بدأوا بعمارة مقام -وبتكاليف باهظة - لمالك الأشتر في منطقة قريبة من القاهرة. وربما قد يكون له مقام متواضع في السويس (القلزم سابقاً).
ويشدّد المهاجر على أن "لا سند تاريخياً لهذا الكلام، ومع هذا فهو مغروس في أذهان الناس، ويسود الاعتقاد أن مالكاً مدفون في مصر". ويشرح أن سبب التعجب في البداية من وجود مقام لمالك الأشتر في بعلبك، لا في مصر "مردّه إلى عدم اطلاع الناس على النصوص التاريخية التي تدلّ على ذلك. وهم لا يعرفون أنّ بعلبك كانت إلى ما قبل وجود السيارات جزءاً من الطريق الطبيعي بين العراق والشام. وموكب السبايا يدل على ذلك. وكان في الحقيقة هو الطريق الطبيعي". إذاً، ففي المحصّلة التي خلُص إليها الشيخ جعفر المهاجر، حول وجود قبر مالك الأشتر، أحد أبرز أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فإن هذا الأمر سيكون له وقع شديد التأثير على محبي أهل البيت عليهم السلام، لا في لبنان فحسب، بل حتى بالنسبة لدول المحيط، وإيران، وأينما وجد ذكر لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله.