الشيخ عباس رشيد
ولد مالك الأشتر (رض) قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكان شاباً له وزن ورأي في قومه حين دخل في الإسلام كغيره من عظماء ذاك العهد المبارك. وقد عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورغم أنه لم يسمع حديثه ولم يره إلا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: "إنّه المؤمن حقاً" 1.
* سمو أخلاقه
كان مالك ممن عرف الجهاد وخَبره، فخاض الجهادين: الأكبر والأصغر، حتى ظهر من تسامحه وإيثاره على نفسه ما يليق بكونه من صحابة مولى المتقين علي عليه السلام.
وقد روي أنه "كان يجتاز سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة منه، ورآه بعض السوقة 2 فازدرى بزيّه ورماه ببندقة تهاوناً به، إلّا أنّ مالكاً مضى ولم يلتفت إليه، فقيل له: ويلك! أتدري من رميت؟ أجاب: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، حينها ارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يُصلّي، وما إن انفتل (رض) حتى أكبّ الرجل على قدميه يقبّلهما، سأله مالك: ما هذا الأمر؟! فأجابه الرجل: أعتذر إليك مما صنعت، فقال (رض): لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفرنّ لك" 3.
ويُروى عن أبي هاني ابن معمّر السدوسي في ذكر غلبة جند معاوية على الماء في حرب صفّين: كنت حينئذٍ مع الأشتر وقد تبيّن فيه العطش، فقلت لرجل من بني عمّي: إنّ الأمير عطشان، فقال الرجل: كلّ هؤلاء عِطاش، وعندي إداوة 4 ما أمنعه لنفسي، ولكنّي أوثره على نفسي، فتقدّم إلى الأشتر وعرض عليه الماء، فقال: لا أشرب حتى يشرب الناس 5.
* جهاده
كان مالك من قادة الفتوح الإسلامية، فكان يقود الجيوش ويضع الخطط للمعارك وينفّذها كما حدث عند فتح حصن (أعزاز) الذي يقع على الطريق المؤدّية من حلب إلى أنطاكيا وقد شارك في كثير من حروب الفتح التي جرت على ساحة معارك أرض الشام والجزيرة (وهي المنطقة التي تقع الآن في تركيا وسوريا والعراق). كما كان حاضراً في كل معارك فتح مصر تقريباً. وفي معركة اليرموك الشهيرة التي جرت على أرض الشام بين المسلمين والروم، جُرح جرحاً بليغاً وشُترت عينه. ومن هنا لقِّب بالأشتر. كما شارك في آخر الحروب التي خاضها المسلمون ضد الروم، التي أنهت نفوذهم على أرض الشام.
* في مواجهة أعداء الولاية
كان مالك عارفاً بإمامه الحقّ، فلم يشكّ في قتال أعداء أمير المؤمنين عليه السلام. فشارك في حروبه عليه السلام على أعدائه وأبلى في ذلك بلاءً عظيماً.
وفي صفين، كان على مشارف النصر.. لكنّه أُكره على التراجع تحت ضغط بعض الذين انطوت عليهم حيلة رفع المصاحف. وحين عاد، خاطبهم بحرقة وألم، فقال لهم: "يا أصحاب الجباه السُّود! كنّا نظنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقاً إلى لقاء الله عزّ وجلّ، فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت، ألا قبحاً يا أشباه النّيْب الجلّالة (الناقة المسنّة آكلة الجيف)" 6.
لقد كان مالك عارفاً بإمامه متيقناً بمسيره المستقيم، فعليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليٍّ؛ قال مالك واصفاً إمامه: "أيُّها الناس، هذا وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ورسوله بجنّة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، ولم يشكّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل" 7.
* قصة شهادته
يروى أنّ مالكاً الأشتر (رض) في حرب صفين بكى، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: "ما يبكيك، لا أبكى الله عينيك؟ فقال: أبكي يا أمير المؤمنين لأنّي أرى الناس يُقتلون بين يديك، وأنا لا أرزق الشهادة فأفوز بها. فقال له الإمام علي عليه السلام: أبشر بالخير يا مالك"8.
ولمّا اضطربت مصر على محمد بن أبي بكر استدعى أمير المؤمنين عليه السلام الأشتر إليه، وأرسل إليه هذا الكتاب: "أما بعد فإنك ممّن أستظهر به على إقامة الدِّين وأقمع به نخوة اللئيم وأسدّ به الثغر المخوف -إلى أن يقول- فأقَبِل عليّ للنظر فيما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام". فأقبل الأشتر إلى علي، وحدّثه حديث مصر وخبّره خبر أهلها، وقال له: "ليس لها غيرك، فاخرج إليها رحمك الله فإنني لا أوصيك اكتفاء برأيك".
وسرعان ما أتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر مصر، فعظم ذلك عليه، لأنه كان طامعاً في مصر، وعلم أنّ الأشتر إن قدم عليها سيكون أشدّ من محمّد بن أبي بكر، فبعث إلى رجل من أهل الخراج يثق به، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيته لم آخذ منك خراجاً ما بقيتُ وبقيتَ فاحتل في هلاكه ما قدرت.
وحين خرج الأشتر وانتهى إلى القلزم، قال له ذلك الرجل: أيّها الأمير هذا منزل فيه طعام، وأنا رجل من أهل الخراج فأقم واسترح. وأتاه بالطعام حتى إذا طعم سقاه مشربة عسل قد جعل فيه سمّاً، فلمّا شربها مات. ولمّا بلغ علياً شهادة الأشتر، قال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون والحمد لله ربّ العالمين، اللهم إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدهر، ثم قال: رحم الله مالكاً فقد كان وفياً بعهده وقضى نحبه ولقي ربّه. مع أنّا قد وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّها من أعظم المصائب" 9.
وحدّث أشياخ النخع (قبيلة مالك) قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهّف ويتأسّف عليه، ثم قال: "لله درّ مالك وما مالك؟! والله لو كان من جبل لكان فنداً 10 ولو كان من حجر لكان صلداً... على مثل مالك فلتبكِ البواكي، وهل موجود كمالك"؟
هذا ومن أقوال أمير المؤمنين عليه السلام فيه: "كان لي كما كنت لرسول الله".
وسأله بعضهم عن الأشتر فقال: "ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق؟". وقد وصفه أمير المؤمنين لأهل مصر حين ولّاه عليها في كتاب كتبه إليهم: "لقد وجهت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام في الخوف ولا ينكل من الأعداء حذر الدوائر، أشدّ على الكافرين من حريق النار، فاسمعوا وأطيعوا فإنّه سيف من سيوف الله لا نابي الضريبة ولا كليل الحد..." 11.
وفي المقابل سُرَّ معاوية بمقتل مالك، فقال: كانت لعلي يمينان، قطعت إحداهما بصفّين (يقصد عمار بن ياسر)، وقطعت الأخرى بمصر (ويقصد مالكاً) 12.
فسلام على مالك القائد، المتواضع، الشجاع، الكاظم الغيظ على المؤمنين، الشديد على الكفّار والمنافقين.
1- انظر: أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 9، ص 41.
2- السُّوقَة من الناس: الرعيّة.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 42، ص 157.
4- الإداوة: إناء صغير من جلدُ يتّخذ للماء.
5- المناقب، الخوارزمي، ص 215.
6- تاريخ الطبري، ج 5، ص 50.
7- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 179.
8- الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج 3، ص 179.
9- الغدير، الشيخ الأميني، ج 9، ص 40.
10- الفند: الجبل المنفرد من الجبال.
11- انظر: أعيان الشيعة، م. س، ج 9، ص 39 ـ 40.
12- م.ن، ص 41.