* الإنسان بين حالتين لا متناهيتين
الإنسان كائن عجيب بين جميع الكائنات ومخلوقات الباري تعالى، لا يوجد أي كائن مثل
الإنسان، فهو أعجوبة لإمكان أن يصبح كائناً إلهياً ملكوتياً، أو كائناً شيطانياً
جهنمياً. وإن بقية الكائنات ليست كذلك. فهي ليست كذلك بأن يكون الفاصل بهذا المقدار
بين الفرد الكامل والفرد الجهنمي الناقص. فهذا من مختصات الإنسان حيث أوجده الحق
تعالى مع جميع أوصافه وصفاته المقدسة وكل شيء فيه. فيكون من هذا الإنسان النبي
الأكرم وسائر الأنبياء، ويكون منه أبو جهل(1) وأمثال أبو جهل والمتوسطون أيضاً ما
بين هذين إلى ما لا يُعلم، وإن الأعمال التي تصدر منه فإن حسنها وقبحها وصلاحها
وفسادها مرتبط بتلك الجهات المعنوية للإنسان.
* ارتباط الروح والجسم
هناك وحدة بين الروح والجسم، فالجسم ظل الروح، والروح باطن الجسم، والجسم ظاهر
الروح، وهما شيء واحد ولا ينفصلان. فكما أن روح الإنسان وجسمه لهما وحدة، فيجب أن
يكون لطبيب الجسم وطبيب الروح وحدة، فيجب أن يكونا واحداً.
* الإنسان عالم صغير
عندما تلاحظون الإنسان، فإن نشوءه الأوّلي لا يختلف عن سائر النباتات. إذ أن النبات
أو نواة التمر أو نواة شيء آخر يُلقى في التربة، فتقوم التربة بالتربية، فينمو في
مكان خاص يحتاجه للنمو. والحيوان أيضاً تقع نطفته في الرحم وهي بذرة وهذه البذرة
مكانها هناك، أي أن مكان تربيتها هناك، ولو أمكن في يوم ما إيجاد مكان له نفس هذه
الخاصية لتنمو النطفة فيه كما في الرحم، لأمكن القيام بالتربية، وقد يشمل ذلك
الإنسان في يوم ما. إن التي لم تزرع في الأرض وهي الحيوانات جميعاً ومنها الإنسان
فإنها تعلو تدريجياً فوق مرتبة النبات وتظهر عندها روح حيوانية في نفس المرتبة التي
هي فيها. فتمتاز عن سائر النباتات لكنها حيوانات بأجمعها، أي تشترك بالروح
الحيوانية. وعندما تولد في هذا العالم وتنفصل عن مكانها يعتبر هذا امتيازاً عن
النباتات، لأن النبات سوف ينتهي لو فصلناه عن مكانه، إلاّ أنها تنفصل عندما يقتضي
الأمر، وتكتمل تلك الصفة النباتية، وتظهر الصفة الحيوانية، وتنتهي الحاجة للرحم،
وتلج هذا العالم.
تشترك الحيوانات جميعاً في الأكل والنوم والشهوات وأمثال ذلك، فلا
امتياز بينها إلاّ من خلال الصفات الحيوانية. وإن هذه الحيوانات الموجودة تختلف في
الإدراك أيضاً. فالقرد مثلاً يدرك ويفهم أكثر من أي حيوان آخر، ويصبح الإنسان
ممتازاً بين هذه الحيوانات لأنه قادر على التطور، فهو يختلف عنها في الإدراك وفي
غاية الإدراك. إذ أن إدراك الحيوان محدود ضمن حدود معينة وينتهي. ولكن ينبغي القول
بأن إدراك الإنسان وقابليته للتربية غير متناهية تقريباً. فالإنسان إذاً عنده
العالم بأجمعه وزيادة، كل ما هو موجود في العالم من الكائنات فإنّه يمتاز عنها، فهو
يشترك مع الحيوانات والنباتات وما يعادلها، لكنه يفوقها بامتلاكه لقوة عاقلة وقوة
أسمى غير موجودة عند بقية الكائنات.
* الإنسان كائن طبيعي وما وراء الطبيعة
لو كان الإنسان لا يخرج عن حدود الطبيعة لما كانت هناك حاجة لأن يأتيه شيء من عالم
الغيب لتربيته، فلا حاجة لتربية الجانب الآخر من الإنسان لعدم وجوده، ولكن بما أن
الإنسان مجرد عن عالم الطبيعة حقيقة، وهذه الخصوصيات الموجودة في الإنسان بذاتها
تدل على وجود ما وراء لهذه الطبيعة، ولأن الإنسان له ما وراء الطبيعة وحسب البراهين
الثابتة في الفلسفة فإنه يوجد ما وراء هذه الطبيعة في الإنسان، والإنسان له عقل
مجرد بالإمكان وسيصبح مجرداً تاماً فيما بعد. فإنه يجب أن يقوم بتربية الجانب الآخر
للإنسان وهو الجانب المعنوي. مَنْ له علم بذلك الجانب، علماً حقيقياً به، وعلماً
بالعلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة والجانب الآخر، وإن الذي يتمكن من إدراك
هذه العلاقة ليس بشراً، لأن الإنسان لا يتمكن من ذلك. إنه قادر على هذا المقدار من
إدراك الطبيعة، ومهما نظر إلى عالم ما وراء الطبيعة من خلال عدسة مكبرة فلن يشاهد
شيئاً. إنه بحاجة إلى استخدام معانٍ أخرى. وبما أن هذه العلاقات خافية على البشر
ويعلمها الله تبارك وتعالى الذي خلق كل شيء، لهذا ينزل الوحي الإلهي على أشخاص
كاملين قد سلكوا طريق الكمال المعنوي وفهموه، فتحدث العلاقة بين الإنسان وعالم
الوحي، ويوحى إليه، ويُبعث لتربية الإنسان في بعده الآخر، فيأتي هؤلاء إلى الناس
ليقوموا بتربيتهم.
* الإنسان أمام مفترق طريقين
﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾(2)
"العصر" هو الإنسان الكامل وهو صاحب الزمان سلام
الله عليه أي عصارة جميع
الكائنات. والقسم بعصارة جميع الكائنات أي القسم بالإنسان الكامل
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر﴾
وهذا الإنسان المذكور هنا هو نفس الإنسان الذي له رأس وأذنان، ونحن نسميه إنساناً،
والخطاب موجّه لنا. فنحن أمام مفترق طريقين: أحدهما طريق الإنسانية، والذي هو
الصراط المستقيم، ويتصل الصراط المستقيم في طرف منه بالطبيعة، وفي الطرف الآخر
بالألوهية، فالطريق المستقيم يبدأ من العلق، وبعضه طبيعي والمهم منه هو عندما يكون
إرادياً، فالطبيعة أحد طرفيه ومقام الألوهية طرفه الآخر، ويبدأ الإنسان من الطبيعة
حتى يصل إلى ذلك المكان الذي لا تصل إليه أفكاري وأفكارك. "سأصير ذلك الشيء الذي
لا يخطر بوهمك"(3) فأنتم مخيرون في هذا المفترق إما أن تنتخبوا صراط الإنسانية
المستقيم، أو الانحراف إلى اليسار، أو إلى اليمين.
* قابلية الإنسان ذات البعدين
عندما يولد الإنسان ابتداءاً، فإن فيه كل شيء على شكل استعداد، أي غير متحقق، لكنه
قابل للتحقق. فهذا الطفل الذي يخرج إلى هذه الدنيا يكون مستعداً ليحصل على ملكات
صالحة، ومستعداً للحصول على ملكات رذيلة. إذ لو سعى باتجاه الرذيلة فإنها ستتحقق
تدريجياً ويصبح باطن الإنسان كائناً منحطّاً. يمارس الإنسان أحياناً بعض الأعمال
التي تناسب شأن الحيوان. فيكون متوحشاً حتى ولو كان في القول، فنراه يعتدي على
الناس، ويوجه لهم كلمات الفحش، وهذه وحشية، أو تكون لديه وحشيات من نوع آخر، هذه
ملكة تظهر عند الإنسان وهي ملكة التوحش.
* الإنسان في مسير الانحطاط
إن الإنسان كما أن له في الدنيا صورة ملكية دنيوية، خلقها
الله تبارك وتعالى في
كمال الحسن والجمال والتركيب البديع، والمتحيرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء،
والإنسان الذي لم يستطع معرفة علم الأعضاء والتشريح حتى الآن وأن يتعرف على حاله
بصورة صحيحة، وقد ميَّزه
الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة وجمال
المنظر، فإن له أي للإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتية غيبية كذلك، وهذه الصورة
تابعة لملكات النفس والخلق الباطن. وفي عالم ما بعد الموت سواء في البرزخ أو
القيامة إذا كان خلق الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانية، تكون الصورة
الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً. وأما إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانية، فصورته في
عالم ما بعد الموت تكون غير إنسانية أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة. فمثلاً
إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة،
كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق. وإذا
غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية. وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكم
سبع. كانت صورته الغيبية الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم. وإذا أصبح الوهم
والشيطنة هما الملكة، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير
والنميمة والغيبة، تكون صورته الملكوتية صورة أحد الشياطين بما يتناسب وتلك. ومن
الممكن أحياناً أن تتركب الصورة الملكوتية من ملكتين أو عدة ملكات. وفي هذه الحالة
لا تكون على صورة أي من الحيوانات، بل تتشكل له صورة غريبة بحيث أن هذه الصورة
بهيئتها المرعبة المدهشة والسيئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالم.
نُقل عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أن بعض الناس يُحشرون يوم القيامة
على صور تحسن عندها صور القردة، بل وقد تكون لشخص واحد عدة صور في ذلك العالم، لأن
ذلك العالم ليس كهذا العالم، حيث لا يمكن لأي شخص أن يتقبل أكثر من صورة واحدة له،
وهذا الأمر يطابق البرهان أيضاً وثابت في محله. واعلم أن المعيار لهذه الصور
المختلفة والتي تعد صورة الإنسان واحدة منها، والباقي صور أشياء أخرى هو وقت خروج
الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآخرة، والذي أوله في
البرزخ عند خروج الروح من الجسد، فبأيِّ ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكل على ضوئها
صورته الأخروية، وتراها العين الملكوتية البرزخية، وهو نفسه أيضاً عندما يفتح عينه
البرزخية يرى نفسه بالصورة التي هو عليها إذا كان لديه بصر. وليس من المحتم أن تكون
صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا. يقول
سبحانه وتعالى نقلاً عن لسان البعض حين الحشر
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾(4)
فيأتيه الجواب من
الله
﴿قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾(5).
فيا أيها المسكين؛ قد كانت لديك عين ملكية ذات بصر ظاهري، ولكنك في باطنك وملكوتك
كنت أعمى، وقد أدركت الآن هذا الأمر، وإلاّ فإنك كنت أعمى منذ البداية ولم تكن لديك
عين البصيرة الباطنية التي ترى بها آيات
الله. أيها المسكين! أنت ذو قامة متناسقة
وصورة جميلة في التركيب الملكي. ومعيار الملكوت والباطن غير هذا. عليك أن تحرز
الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة يوم القيامة. يجب أن تكون روحك روحاً
إنسانية كي تكون صورتك في عالم البرزخ والقيامة صورة إنسانية.. أنت تظن أن عالم
الغيب والباطن وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث
يمكن أن يقع الخلط والاشتباه.. إنَّ عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك،
جميعها، ستشهد عليك بما فعلت بألسنة ملكوتية، بل بقول بعض بصور ملكوتية.
أيها العزيز، افتح سمع قلبك، وشدّ حزام الهمة على وسطك، وارحم حال مسكنتك، لعلك
تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالم بصورة آدمية، لتكون عندها
من أهل الفلاح والسعادة، وحذارِ، من أن تتصور أن كل ما تقدم هو موعظة وخطابة. فهذا
كله هو نتاج أدلّة فلسفية للحكماء العظام. وكشف، انكشف لأصحاب الرياضات، وإخبار عن
الصادقين والمعصومين. وليس المقصود من هذه الأوراق أن تكون محلاً لإقامة الدليل
ونقل الأخبار والآثار بكثرة.
(1) هو لقب "عمرو بن هشام بن المغيرة" الملقب أيضاً
ب"الحكم" لقبه المسلمون الأوائل بأبو جهل لأنّه خالف الإسلام دوماً.
(2) سورة العصر، الآيتان: 1، 2.
(3) إشارة إلى بيت شعر لمولوي.
(4) سورة النساء، الآية: 100.
(5) سورة العلق، الآية: 1 5.