الشيخ علي ذو علم
"في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال" 1
تختلف شروط الحياة والأحوال الاجتماعية والعائلية بين الأفراد. ويظهر الاختلاف والاضطراب في جوانب الحياة الاقتصادية وإمكانيات الحياة والمواقع الاجتماعية والسياسية والعائلية، على أساس أنها واقعيات تتبدل بتبدل الشروط والظروف المحيطة بالأفراد. فقد تساهم هذه الأمور في بعض المواقع في إعطاء الشخص موقعاً أفضل وقد تذهب به إلى ما هو أدنى فتسلب منه الموقع والإمكانيات.
* جوهر الإنسان
يقول أمير المؤمنين عليه السلام إنّ هذه الحركة المترامية بين الصعود والهبوط، وفيها تقلب أحوال الإنسان، إنما هي مقدِّمة من أجل وضوح الجوهر الوجودي والداخلي لهذا الإنسان؛ لأنه يكتسب شخصيته الحقيقية في أجواء الصّعاب والمشكلات وتبدّل الأحداث. فكما يظهر المعدن على حقيقته على أثر اختلاف الحرارة والبرودة، وكما يصبح الفلز خالصاً من خلال اشتعاله وذوبانه، تظهر جواهر الأشخاص الحقيقية من خلال تبدّل الأحوال وتغيّر مسير وشروط الحياة. ولكن، لا يمكن القول إنّ مصير الإنسان يتحدد من خلال جبر الشروط كما فسّر ذلك بعض الناس الذين اعتبروا أن الإنسان يعيش في خضم نوع من الجبر الذي لا مفرّ منه، جبر التاريخ، جبر العائلة وجبر المجتمع، حيث ينتفي بذلك دور الإنسان على مستوى مستقبله.
بناءً على ذلك، فالشروط والأوضاع المختلفة ليست بمثابة سجن، بل هي نوع من الإمكان الذي يعطى للإنسان من أجل بروز جوهره الداخلي.
* الحوادث والسعة الوجودية
إن مسائل الرفاه والراحة، الفقر والغنى، الشهرة وعدمها، الرئاسة والمرؤوسية، السلامة والمرض، وكل الأمور التي تعرض للإنسان تهيئه لظرف وموقف خاص يظهر طاقته وسعته الوجودية. طبعاً لا يمكن غضّ النّظر عن دور الإنسان في توفير الشّروط والموقعيّة الملائمة من خلال الجهد والسّعي والتدبير، ولكن لا يمكن الإذعان لفكرة أنّ جميع هذه الحالات تخضع لتدبير وسعي الشّخص. والواقع أن وجود هذه الشّروط في الحياة قد يكون خارجاً بعض الأوقات عن الإرادة. فكم نلاحظ وقوع العديد من الأشخاص في أمراض مستعصية على الرغم من التّدابير الشّديدة التي يقومون بها؟ وكم نرى من أشخاص يجهدون ومن جميع الطّرق في سبيل الوصول إلى الثروة إلّا أنهم لا يصلون؟ وكم يبتلى بعضهم بمشكلات كبيرة على أثر الحوادث المفاجئة؟ ولكن يبقى القول إنّ هذه الحوادث هي التي توضح الجوهر الوجودي الحقيقي للإنسان.
* المهم التكليف الإلهي
نعم، هناك أشخاصٌ لا يذكرون الله تعالى حين الرضا ولا يذكرونه حين المصيبة. وهناك من لا يعيش فقط حالة غفلة، بل يتفوه بما لا يليق عند المشكلات. أما بعضهم الآخر فإنهم يلجأون إلى الله تعالى فقط عند الشدائد والمشكلات ويغفلون عنه عند الرضا والسعادة. بعض الناس يفكر بالفقراء عندما يكون فقيراً ولكن بمجرد أن يحصل على منصب ومقام دنيوي، فإنه ينسى حال الفقراء وينسى مسؤوليته في رفع مشكلاتهم، معتبراً أن ما وصلوا إليه مسؤوليتهم ولا دخالة للآخرين فيه.
طبعاً، الإنسان لا يمكن له الاجتناب عن هذه التحولات والتغيرات، ولا يمكن أن يضع نفسه في مأمن منها. ولكن، الأصل أن يتمكن الإنسان من الوصول إلى عمقه الفكري والروحي مع الثبات الحقيقي في العمل، وأن يكون محرّكه الأساس في جميع الظروف هو التكليف الإلهي. المهم أن يتمكن الإنسان من إظهار سعته وقدرته على التحمل في مقابل التحولات والتغيرات والأحداث التي تحصل.
* المشمولون برحمة الله
ونشاهد في حياة الإمام علي عليه السلام المليئة بالعبر ذاك التجلّي الحقيقي للثّبات والاستقرار، وهذا ما تجلّى في شخصيات تربّت في أحضان أفكار الإمام عليه السلام.
فمن يتمتع بروح عالية وقدرة وثبات في مواجهة المشكلات، والذين لا يهتزون أمام المواقع الاجتماعية ولا يتخلون عن تكاليفهم فإنهم يحملون روحاً عظيمة في جوهر وجودهم يظهرونها عند الحاجة. وهؤلاء هم الصالحون الحقيقيون، المشمولون برحمة الله تعالى.
1 نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج4، ص49، الحكمة 217.