د. يوسف مَدَن
المبدأ الثالث عشر هو الأخير في مبادئ قيم تنظيم السلوك،
التي ذكرناها تباعاً في الأعداد السابقة. وقد ذكر الإمام المهدي عجل الله تعالى
فرجه الشريف في دعاء الافتتاح: "كم يا إلهي من كربة فرجتها، وهموم قد كشفتها،
وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها".
* المبدأ الثالث عشر: التفريغ الانفعالي
وهذا المبدأ هو مبدأ هام، بالنسبة إلى تحقّق الصحّة النفسيّة للفرد، ولا يمكن
تخطّيه في مبحثنا؛ حيث يهتمّ بعملية (استفراغ واستخراج) المخزون الانفعاليّ، في
داخل الفرد، من هموم وغموم ناتجة عن مشكلات انفعاليّة، وذنوب دينيّة، وأخطاء
سلوكيّة، واجتماعيّة تجاه ربّه ونفسه والآخرين. فيتمّ الاعتراف بها أولاً، ثمّ يطلب
معها المغفرة، ثانياً، لتذويب ضغوط هذه الهموم، ثمّ التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى
بطلب "الصفح"، ثالثاً. فالتفريغ إذاً، عمليّة تفتيش وجدانيّة عن هموم تسبّب في
النفس إحساساً بالإثم والذنب، وتصاحبها ضغوط وإحساس بالقلق، ومشاعر استياء من إثم
معيَّن أو أكثر.
ويتمّ بعملية التفريغ، الحصول على شيء من الراحة النفسيّة، فتهدأ النفس المشحونة
بانفعالات القهر والإثم، وتصفو مشاعرها تدريجيّاً، وتضعُف تناقضاتها، وتكون أكثر
حياداً لتقبّل الجديد الصحيح.
* اللهمّ مفّرج الكربات
والباحث يمرُّ متى تبصَّر، بتأمّل دقيق وفكر ثاقب، بمعاني المادة المعرفيّة
-الإرشاديّة للنصّ السابق، وقوله عجل الله تعالى فرجه الشريف أيضاً: "اللهمّ إني
أسألك قليلاً من كثير مع حاجة بي إليه عظيمة... وإنَّ عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن
خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك عن قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي". وهي تستبطن
معاني هامّة ذات علاقة بالصحّة النفسيّة، توحي للباحث، والقارئ معاً، بإشارات عن
مبدأ التفريغ الانفعاليّ. فقد استبطن المقطعان السابقان حلولاً علاجيّة تمثّلت في
كلمات خمسة هي المفتاح الحقيقيّ، وجميعها تخاطب الله سبحانه، وتُوكل التوفيق إليه،
وتُثني عليه، وتُسلّم إليه الأمر باعتباره (مفرج الكربات، وكاشف الهموم، ومقيل
العثرات، وناشر الرحمة، ومفكك حلقات البلاء.. واحدة تلو أخرى)، فكلمات "فرّجتها،
وكشَفتها، وأقَلتها، ونَشرتها، وفكَكتها" لخّصت الدور الأساسيّ لخالقنا الكريم في
توفيقه لنا في التغلّب على هموم الحياة، ومسبّباتها، ونتائجها على حدّ سواء، فهو
سبحانه المعين، ولا سواه.
* إعادة التوازن للذات
إنّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، في دعائه، لم يحدّد نوع هذه
الهموم، كمشكلات انفعالية مؤثّرة في سيكولوجيّة الأفراد. ولكنّ كلمات الهموم
والكربات وحلقات البلاء تعني وجود مشكلات مختلفة، تترك آثارها الانفعاليّة
والسيكولوجيّة على النفس. وهذا واقع منطقيّ لا فرار منه لأحد. فلا يوجد شخص في
عالمنا لم يواجِه مشكلات انفعاليّة أو اجتماعيّة أو غيرها، تسبّبت في تكوين ما
سمَّاه الدعاء بـ"الهموم، والكربات، والعثرات وحلقات البلاء"، وتحتاج هذه المشكلات
بالضرورة إلى محاولات علاجيّة لإعادة الذات إلى توازنها النفسيّ المفقود أو (خفض
توتّرها الداخليّ) على أقلّ تقدير، ممّا يتيح للذات في مجتمع "المنتظرين" بقَدَر من
الحركة والعمل يساعدها على النموّ الطبيعيّ والحريّة، والاعتبار للذات.
* معالجة الهموم بعون الله
وبلحاظ محتوى الكلمات الواردة في شأن لفظة (الهموم)، وما اتّصل بها من ألفاظ
مترادفة معها.. نجد ما يأتي:
1. أنّ تعبير الهموم يشير إلى حالة نفسيّة، ومسبّبات وعوامل تكوين أوّليَّة، ومن
ذلك الكربات، والعثرات، وحلقات البلاء. وتشير هذه الأسباب بدورها إلى وقوع مشكلات
متنوّعة في حياة الأفراد المنتظرين وغيرهم، وتأثّرهم بسلسلة من الأخطاء في السلوك
والتفكير، والمشاعر مع النفس ومع الآخر.
2. أنّ للهموم والكربات، والعثرات، وحلقات البلاء تراكمات قد تكون ثقيلة في النفس،
كمشاعر الإثم الحرام، وضغط مشاعر القلق على شخصيّة المهموم.
3. يتمكّن الفرد من معالجة همومه، بعون من الله سبحانه، وجهده الصادق في العمل على
تصفية ما في نفسه من متاعب ما أمكنه، وتذليل الصعاب التي تواجه المنتظرين، أفراداً
وجماعات، فلا ملجأ للخلاص من طاحونة هذه الهموم سوى بالله تعالى بالاستعانة به في
دفع المكروهات، وإزالة آثار هذه الهموم، وتعبئتها بالمشاعر، والأفكار الإيجابيّة.
وهذا، ما أوضحه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في مدخل دعائه: "كم
يا إلهي من كربة فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة
بلاء قد فككتها".
* ورحمة قد نشرتها
فتهدأ النفس، وتخفّ مشاعر القلق لديها، ويتقلّص ألم الإحساس بالذنوب أو آلام
المشاكل المتعدّدة، وتشعر النفس بقدر أفضل من الراحة، بل وتبدي استعداداً لتوافق
جديد وسويّ، واستعادة توازنها المفقود، وهذا مــا عناه الإمام المهدي عجل الله
تعالى فرجه الشريف بنشـر "رحمته" تعالى، ولهــا وجهـــان:
أ. إزالة الهموم أو تخفيفها بتفريج الكربات، فإذا تمّ ذلك بلغ الفرد المسلم
والمنتظِر رحمة الله سبحانه، وهو كما ذكرنا مراراً أنه شكل من أشكال (التدعيم
السلبيّ).
ب. وفي الوجه الآخر من رحمة الله يحصل الفرد المنتظر عليها، من خلال توفير مناخات
أفضل "للصحّة النفسيَّة"، وتحسين ظروف البيئة النفسيّة للمنتظرين، وعباد الله بوجه
عام، ودونما تمييز بينهم، بقيم جديدة، واستمرار النعم الإلهيّة.
* أسألك مُستأنساً
وفي موقف آخر، يدعو الإمام المهديّ محمد بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف
مخاطباً ربَّ العزَّة والجلال: "وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مُدلاَّ
عليك فيما قصدت فيه (به) إليك"، وكأنّ النصّ يشترط توفير مناخ نفسيّ جيد من
خلال الشعور بالهدوء والراحة، والاستئناس الإيجابيّ بهذه المهمة في الاتصال بالله،
وسهولة الاعتراف لله بموبقات النفس وأخطائها حتى وإن كان سبحانه يعلم بأسرار
العباد، أو إيكال حلّ المشكلات والكربات إليه عــزَّ وجلّ إنْ لم تكن قضايا سلوك
تنتهك -بمنظور عباديّ- الحقوق والواجبات.
ثمّ ذكر دعاء الافتتاح -في عملية تفريغ لداخل الإنسان- بعض عيوب العباد في السرّ،
وأمام الملأ بقوله: "فإن أبطأ عنّي (عليَّ) عتبت بجهلي عليك، ولعلَّ الذي أبطأ
عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور"، وتابع الكلام: "فلم أرَ مولى (مُؤّمَّلاً)
كريماً أصبر على عبد لئيم منكَ عليَّ يا رب، إنك تدعوني فُأُوَلِي عنك، وتتحبب
إليَّ فَأَتبغَّض إليك، وتتودد إليَّ فلا أقبل منك، كاَنَّ لي التطوُّل عليك، فلم
يمنعك ذلك من الرحمة لي، والإحسان إليَّ، والتفضل عليَّ بجودك وكرمك، فارحم عبدك
الجاهل، وجُدْ عليه بفضل إحسانك، إنَّك جواد كريم".