الدكتور محمود عكام(*)
* فاتحة:
عليّ عليٌّ عند اللَّه وعند رسوله، ومَنْ في العُلى كعليّ؟
والحديث عنه حديثٌ عن أمَّة قائمة للّه وباللّه، فلا واللّه ما أفلحت الأمةُ إن
عدَلت عن الوصيّ الرضيّ، ولا سعدت البريَّة إن تولّت بعد النبيِّ صلى الله عليه
وآله غير علي أولاً، ولا علَتْ قيادةُ إنسانية إن اتخذت سوى "ذو الفقار" راية. ىوما
الكلام هنا يا سيدي الإمام من محض عاطفة، بل العقل في غاية التفاعل والجِدّ، والقلبُ
معهما في اطمئنان جمّ.
- سؤالي الذي أردده هنا: ما طبيعة الموقف الذي يجب تبنيه
حيال الإمام المرتضى؟ وهو نفس السؤال الذي حوَّرتُه في داخلي عن الزهراء سيدة نساء
العالمين، وكانت الإجابة يومها "ثناء وولاء"، وهي ذاتها بلا ريب هنا، فلن يكون
موققنا مع زوج البتول إلا الثناء والولاء أيضاً.
والثناء: ذكر المحامد والمحاسن والتغني بها، وتعبئة الوجدان والعاطفة بها.
والولاء: اقتداءٌ نسيجُه الحب، وتضحية وفداء ونصرةٌ للشخص والمنهج، وعهدٌ على
الاتباع والوفاء.
- وها أنا هنا أستعرض ما ورد في "ثناء" علي المرتضى على لسان سيد الناس وأفضلهم
محمد صلى الله عليه وآله، ومن ثم سأحكي حكاية "الولاء" ضرورةً دينية إيمانية لا
مناص منها ولا محيد عنها.
* شعاعٌ من ضياء الثناء:
لستُ في ذي الفقرة جامعاً لكل ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله ثناء في حق عليّ،
لكنني اكتفيت بلمع، وسردتُ بعضاً ممَّا ورد، إقامةً للحجة على من قصّر، ودعماً لمن
ابتغى الرفعة في مقام الإيمان أكثر.
1 - روى البخاري أن النبي صلى الله عليه آله قال في غزوة خيبر: "لأعطين الراية
رجلاً يحبُّ اللَّهَ ورسوله، ويحبُّه اللَّهُ ورسوله". فتطاول الصحابة لها، فقال
النبي صلى الله عليه وآله: "ادعوا عليّاً" فأتي به أرمد، فبصق في عينيه ودفع الراية
إليه(1).
2 - روى مسلم والترمذي وأحمد أن النبي صلى الله عليه وآله لما نزلت:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
الأحزاب/33.
دعا صلى الله عليه وآله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: "اللهمَّ هؤلاء أهل
بيتي"(2).
3 - روى النسائي في خصائصه أن النبيَّ صلى الله عليه وآله قال لأصحابه يوماً:
"إني وليُّكم"، قالوا: صدقت يا رسول اللّه، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها وقال:
"هذا وليي والمؤدي عني، وإنَّ اللّه موالٍ منْ والاه ومعادٍ من عاداه"(3).
4 - روى مسلم والترمذي أن النبيَّ صلى الله عليه وآله قال لعليّ: "أما ترضى أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي"(4).
5 - روى الترمذي والنسائي أن النبيّ صلى الله عليه وآله قال لعليّ: "أنت مني
وأنا منك"(5).
6 - روى الترمذي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله قال لعليّ: "أنت أخي في
الدنيا والآخرة"(6).
7 - روى الحاكم والطبراني أن محمَّداً رسول اللّه صلى الله عليه وآله قال: "أنا
سيد ولد ادم، وعليّ سيد العرب"(7).
8 - روى الحاكم في المستدرك على شرط البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وآله
قال: "من أحبّ عليّاً فقد أحبَّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني"(8).
9 - روى الترمذي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله قال: "من كنت مولاه فعلي
مولاه"(9).
10 - روى الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "يا عليّ أحبُ لك
ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي"(10).
* الولاء لعليّ عليه السلام المضمون والمؤيّد:
هذا الولاء مضموناً ذو مستويين:
1 - المستوى الأول:
عاطفي إيماني يعني حباً وارتباطاً وتعلقاً ووُداً، فلا واللّه ما تحقق إيمانٌ بغير
حبِّ عليّ، ولا حَسُن إسلامٌ من دون ارتباط بعليّ، ولا جمُل إحسان إن لم يَودّ
القلب عليّاً، ولا اتسمت عاطفتنا بالقرب من اللّه إن لم يكن في صفحة موضوعاتها
عليّ. من أجل هذا: فلنعلن عهد الحبِّ والارتباط والوداد بعليّ، ولنقل إثر ذلك
ليتنا كنا في "صفّين" لنقف في صفك يا أبا الحسن، وليتنا كنا في "الجمل" لنتجمّل
بالانتساب إلى ركن أبي تراب، وليتنا كنا في خلافتك يا والد السبطين لنبايعك أميراً
وخليفة وهادياً وإماماً، ليتنا كنا في عهدك وعصرك لنقول بملء أفواهنا: سلام عليك
يا عبد اللّه، ويا أخا رسول اللّه، ويا أيها الصدّيق الأكبر، نعم، ليتنا كنا معك
لنفديك بأرواحنا يا وليَّ أولياء المسلمين.
2 - المستوى الثاني:
عمليٌّ سلوكيٌ حركيٌ، يعني اعتمادَ قوله وقبول رأيه وطاعة أمره والتزام فقهه، وكيف
لا؟! وهو مَنْ قال عن نفسه: "بعثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن وأنا
شاب فقلت: يا رسول اللّه إنك تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء، فقال الرسول
صلى الله عليه وآله: "انطلق، فإن اللّه سيهدي قلبك ويثبت لسانك"(11).
- وعليّ أيضاً من قضى أمام رسول اللّه بأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فقد ورد
أنه عليه السلام كان جالساً مع ثلة من أصحابه، فجاءه خصمان فقال أحدهما: يا رسول
اللّه إن لي حماراً وإن لهذا بقرة، وإن بقرته قتلت حماري، فبدأ رجل من الحاضرين
وقال: لا ضمان على البهائم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: "اقض بينهما يا
عليّ". فقال عليّ عليه السلام لهما: "أكانا مرسلين أم مشدودين، أم أحدهما
مشدوداً والآخر مرسلاً"؟ فقال: كان الحمار مشدوداً والبقرة مرسلة، وصاحبها معها،
فقال عليّ عليه السلام: "صاحب البقرة ضامن"، فأمضى رسول اللّه قضاءه(12).
- وعليّ كذلك مَنْ قال فيه المصطفى صلى الله عليه وآله: "أقضاكم عليّ"، وفي
رواية: "أقضى أمتي عليّ"(13).
- وعليّ هو المشهود له بالأعلمية بالسنة، فقد قالت السيدة عائشة رضي اللّه عنها:
"عليّ أعلم الناس بالسنة"(14).
وقال عمر بن الخطاب: "لا أبقاني اللّه في أرض ليس فيها أبو الحسن"، و"أعوذ
باللّه من معضلة ولا أبو الحسن لها"، و"علي أقضانا"(15).
- وعليّ قال عنه النبي صلى الله عليه وآله يوم عرضه على البتول: "يا فاطمة أو ما
ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً"(16).
- ولما سئل التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح: أكان أحدٌ من أصحاب النبي أعلمَ من
عليّ؟ أجاب قائلاً: لا واللّه ما أعلمه(17).
أفبعد هذه المؤيدات يماري عاقل في ضرورة الولاء العملي السلوكي لعليّ. فيا علماء
الأمة، ويا فقهاءها: هيا معاً، أجمعوا أمركم على جمع فقه عليّ ومنهاجه وطريقته
وسنته جمعاً موثقاً محققاً، واعتبروه واتبعوه وخذوا به مدعوين من قِبَل سيد الناس
محمّد صلى الله عليه وآله. لا نفرّق في ندائنا هذا بين أحد من فقهائنا، سُنّيهم
وشيعيِّهم. "فعليّ" يجمعنا، وهديُه يوحدنا، وفقهه يمتن أواصر الأخوة فيما بيننا.
"عليٌ" يريد من الأمة اجتماع كلمة ووحدة صف. فتعالوا يا قوم إلى "عليّ" لنعلو، وإلى
"عليّ" لنسمو، وإلى "عليّ" لنصفو، وإلى "عليّ" لنختم سجلَّ الفرقة ونغلقه، ونفتح
صفحات اللقاء والتعاون والتباذل والتناصر، غير ناسين قول الحق جل شأنه: "واعتصموا
بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرقوا". فجزاك اللَّه يا إمام الأئمة عن المسلمين كل خير،
أديت الأمانة، ونصحت الناس، وهذا أنت تقول واثقاً: "ركزتُ فيكم راية الإيمان،
ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من
قولي وفعلي، وأريتكم الأخلاق من نفسي".
* نفحةٌ من سيدي الإمام عليّ عليه السلام
يا صهر سيد ولدِ ادم، يا زوجَ سيّدةِ نساء العالمين، يا والد سيدي شباب أهل الجنة،
يا إمامَ الأئمة. في رحابك تلتحمُ الفضائل صفّاً يخدم شخصَك، وتحت راياتك تتزاحم
القيم لتشْرُفَ بالانتساب إلى جنابك، وحولك تهفو الرجولةُ راجيةً أن تنفحَ فيها
بعضاً من روحك لتكون في سدرة الكمال إذ تكون وصفك.
سيدي أيُّها الإمام..
أنتَ الحكمةُ عينُها، والشجاعةُ كلُّها، والبلاغةُ رأسها والأمانة أُسُّها، وأنت لا
شك محكُّ إيمان المؤمنين، فمَن أحبّكَ لهو المؤمنُ، ومن لا فالنفاقُ رداؤه
والذلُّ ركابُه.
حظيت بالوصاية فما أروعكَ! ونلتَ كمال الولاية فما أعظمك!
منك نَسْلُ النبوة، وفي ظلالك تحتمي الفُتوة، فالفتى الحقُّ أنت، وموئلُ الشهامة
والمروءة كذلك أنت.
سيدي...
لقد ولدتَ كبيراً، ولُذت بحمى الرسالة كثيراً، عبدت ربك حقا منذ نشأتك، ولجأت إليه
وحده دون سواه في رخائك وشدتك.
ما توجهتَ أبداً إلى السوى، ولا كانت لك هفوةٌ لها سمَةُ الهَوَى، فحاشاكَ حاشاك يا
مُختار المختارِ، وسيِّدَ آل بيت النُّبوَّة الأطهار.
مدينةُ العلم أنتَ بابُها، وأمينُ سرها، والإمامةُ أبت بتقدير اللّه إلا أن تكون
ربانَها.
فيا سيدي يا نورَ العُيون، ويا سيِّدي يا زوج البتول:
اقْبَلْ "محموداً" خادماً في عتباتك، وأنلْهُ بعض بعضٍ من نظراتك.
فورَبِّ السَّماء والأرض إني بك مكين، وإذ أفديكَ بروحي وأهلي ومالي فإنّي لدَى
الحقِّ من الفائزين.
سلامُ اللّهِ على ذاتك، وبركاتُه على صِفَاتك، وصلواته على سِرِّك، يا روحَ أرواحِ
الأولياء، وحق حقيقة الأصفيَاء، ويا بهجةَ وفاءِ الأوفياء، وعليّ العُلا في عالم
الإمامة والطهر والنَّقاء.
(*) مفكر إسلامي سوري خطيب مسجد التوحيد الكبير بحلب
وأستاذ في كُلّيتي الحقوق والتربية بجامعة حلب.
(1) أخرجه البخاري.
(2) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.
(3) أخرجه النسائي في خصائصه.
(4) أخرجه مسلم والترمذي.
(5) أخرجه الترمذي والنسائي.
(6) أخرجه الترمذي.
(7) أخرجه الحاكم والطبراني.
(8) أخرجه الحاكم في المستدرك على شرط البخاري ومسلم.
(9) أخرجه الترمذي.
(10) أخرجه الترمذي وأبو داود.
(11) أخرجه الحاكم في مستدركه.
(12) نور الأبصار.
(13) انظر مصابيح البغوي.
(14) الاستيعاب.
(15) مسند الإمام أحمد.
(16): مسند الإمام أحمد.
(17) انظر طبقات الشيرازي.