القائد آية الله السيد علي الخامنئي
انتهينا في الأبحاث الماضية إلى أن هدف جميع الأئمة عليهم السلام بما فيهم الإمام السجاد عليه السلام كان إقامة الحكومة الإسلامية، وأن تحقيق هذا الهدف استلزم من الإمام السجاد عليه السلام القيام بثلاثة أدوار ـ بدونها لن يكون هناك إمكانية لإقامة هذه الحكومة.
الأول: تعريف الناس على الفكر الإسلامي الأصيل، هذا الفكر الذي دفن تحت تراب النسيان نتيجة حكم الظالمين طوال ذلك الزمان، أو تعرّض للتحريف في عقول المسلمين. فكان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقول بتعريف الناس على الحقائق الإسلامية والأصول الدينية بكل ما أمكنه من قوة وبأكبر درجة تصل إليها أمواج كلماته وتعاليمه.
الثاني: تعريف الناس على حقيقة قضية الإمامة، وبتعبير آخر بيان مسألة الحكومة الإسلامية، والحكم الإسلامي الحقيقي. وتوعية المجتمع الإسلامي على حقيقة مجريات ذلك الزمان الذي شهد حكم الظالمين، والكفار والفاسقين، وإفهامه بأن حكومة عبد الملك وأمثالها ليست الحكومة التي يريدها الإسلام. فما دام الناس غير مدركين لهذه القضية ولم يخرجوا من حالة التخدير التي تفاقمت على مرور الزمان، فإن إقامة الحكومة التي يريدها الإمام السجاد عليه السلام سوف تبقى غير ممكنة.
الثالث: تشكيل مجموعة لتأسيس حزب يكون أعضاؤه كوادر أساسيين لجهاز الإمامة.
وبهذه الأمور الثلاثة سوف تتهيأ أرضية إقامة الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي.
لقد قلت سابقاً وأؤكد ما قلته الآن بأن الإمام السجاد عليه السلام لم يكن يرى أنه سيتم تحقيق الحكومة الإسلامية في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق عليه السلام في زمانه)، لأنه كان معروفاً بأن الأرضية في زمان الإمام السجاد عليه السلام لم تكن معدة لذلك، فقد كان الظلم والقمع والجهل أكبر من أن يزول خلال هذه السنوات الثلاثين. لقد كان الإمام السجاد عليه السلام يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة نفهم أيضاً أنه حتى الإمام الباقر عليه السلام لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه، أي أنه منذ سنة 61 حتى 95 هـ (شهادة الإمام السجاد عليه السلام) ومنذ سنة 95 حتى 114 هـ (شهادة الإمام الباقر عليه السلام) لم يَسْعَ كلٌّ منهما إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.
وسوف نستشهد على ما قلناه بكلمات وبيانات الإمام السجاد عليه السلام لأنها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعرف على سيرة وحياة الإمام السجاد عليه السلام بل على حياة كل الأئمة عليهم السلام. غاية الأمرـ وكما أشرنا سابقاً ـ أننا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطَّلع على حركة الأئمة ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسعي والسير، وبغير هذه الصورة قد نفهم معاني هذه الكلمات، التي سوف أبيّنها، بشكل سيء.
والآن بعد أن اطّلعنا على بعض تلك الحوادث في الحلقة السابقة والتي استفدناها ببركة بيانات الأئمة عليهم السلام وكلماتهم، سوف نعتمد الآن على نفس المصادر وسنرى أية استفادات صحيحة نحصّلها.
قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نذكّر بنقطة قصيرة وهي أنه بسبب مرحلة القمع الشديد التي كان يعيشها الإمام السجاد عليه السلام، لم يستطع أن يبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدعاء (خاصة أدعية الصحيفة السجادية التي سوف نتعرض لها فيما بعد والبيانات والروايات التي نقلت عن الإمام عليه السلام والتي كان يطغى عليها لحن الموعظة) حيث كان الإمام من ضمن بيان الموعظة والنصيحة يبيّن ما أشرنا إليه سابقاً، وبهذا اتّبع الإمام السجاد عليه السلام منهجاً حكيماً وشديد الحذاقة، وبذلك الأسلوب الذي ظاهره موعظة الناس ونصحهم أدخل الإمام عليه السلام إلى أذهانهم ما يريده، وهذا من أفضل أشكال التعاطي الأيديولوجي والفكري الصحيح.
ما سيقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول" حيث نشاهد عدة أنواع من الأسلوب المذكور والتي تشير إلى طبيعة الجهاد المخاطبة.
أحد تلك الأنواع، البيانات الموجّهة لعامة الناس والتي يظهر فيها أن المستمع ليس من الجماعة المقرية والخاصة للإمام أو من الكوادر التابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائماً إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأن عامة الناس لا ينظرون إلى الإمام السجاد عليه السلام كإمام بل يطلبون الدليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدل إمّا بالآيات أو بالإستعارة من الآيات، حيث استخدم هذا الأسلوب في أكثر من 50 مورداً ذُكر في تلك الروايات.
ولكن في الخطاب المتوجّه إلى المؤمنين نجد الأمر مختلفاً لأن هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجاد عليه السلام وقوله مقبول عندهم ولهذا لم يكن يستند في ك لامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كل كلامه الموجه إليهم لوجدنا أن استخدام الآيات القرآنية فيها قليل جداً.
في رواية مفصّلة في كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظة لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إياهم كل يوم جمعة"، حيث نجد هنا أن دائرة المستمعين واسعة وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصلة الواردة فيها.
ففي هذه الرواية لم يستخدم الإمام كلمة "أيها المؤمنون" أو "أيها الأخوة" حتى نعلم أن خطابه موجهٌ إلى جماعة خاصة ولكنه قال "أيها الناس" وهذا يشير إلى عمومية الخطاب.
ثانياً: لا يوجد في هذه الرواية تصريح بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كل الخطاب لبيان العقائد، وما ينبغي أن يعرفه الإنسان وذلك بلسان الموعظة.
فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنكم إليه راجعون..." ثم يتطرق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلامية، ويوجّه الناس إلى ضرورة فهم الإسلام الصحيح، وهذا يدل على أنهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، حيث يوقظ بهذا البيان الدافع لمعرفة الإسلام الصحيح بين الناس.
انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد عليه السلام من أسلوبه الجاذب، حيث يقول: "ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده" وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الذي أرسل إليك"، ثم الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه..." وفيها، وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصلية وهذه المطالب الأساسية للإسلام كالتوحيد والنبوة والقرآن والدين، يبيّن هذه النقطة الأساسية بقوله عليه السلام: "وعن إمامك الذي كنت تتولاه". فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمة عليهم السلام. وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض ولكن هاتين القضيتين ـ الولاية والإمامة ـ على لسان الأئمة أمر واحد والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قضية الإمامة عند الأئمة عليهم السلام تعني قضية الحكومة، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة.
الناس في إيران، وفي الفترة السابقة لعهد الإمام (الخميني) لم يكونوا يعرفون المعنى الحقيقي للإمام ولكن الشعب اليوم أصبح يفهم معناها جيداً، فنحن نقول أن الإمام بمعنى قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الذي نتعلم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا. ولحسن الحظ أن هذا المعنى "للإمام" قد ركز في أذهان الناس بعد الثورة.
في عالم التشيّع تعرضت هذه القضية (دور الإمام) إلى فهم خاطئ. ففي السابق كان الناس يتصوّرون أنّ هذا الفرد الواحد هو الذي يحكم المجتمع وهو الذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الخاص: فيحارب ويصالح ويعمل وينفذ كل طلب هو بنفسه، فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة وفي نفس الوقت هو الذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم! واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضية للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أن الإمام في مهلة الغيبة ما هو إلاّ عالم ديني، وهنا بالطبع تصور خاطئ.
الخلاصة:
● لم يهدف الإمام السجاد عليه السلام إلى تحقيق إقامة الحكومة الإسلامية في زمانه بل عمل على المدى البعيد.
● قام الإمام السجاد عليه السلام بتعريف الناس على الفكر الإسلامي الأصيل وعلى حقيقة قضية الإمامة، وقام بتشكيل مجموعة كوادر أساسيين لجهاز الإمامة.
● استفاد الإمام السجاد عليه السلام في عمله من أسلوب الموعظة والدعاء الموجّهين.