يقول الإمام الخميني قدس سره:
"...فالمطلوب من قراءة القرآن هو انتقاش صورته في القلوب وتأثير أوامره ونواهيه ودعواته. وهذا المطلوب لن يحصل إلا إذا لحظت آداب القراءة فيه..".
ما وصلنا إليه من خلال السير في أحكام الشريعة والتأمل في أوامرها هو أن التمسك بالقرآن الكريم يعد تكليفاً أساسياً يقف على رأس جميع التكاليف الإلهية، وبدونه لن يكون لأي عمل أية قيمة.
* الظاهر والباطن:
ومن الثابت الواضح أن لجميع الأحكام الشرعية ظاهراً وباطناً وبدون رعايتهما لا تتحقق الفائدة النورانية للحكم، ولن يبلغ الإنسان الغاية من تشريعه.
فهذه الصلاة لها ظاهر وباطن. فبدون رعاية ظاهرها لن يدخل الإنسان في صراط العبودية، كما أنه بدون رعاية باطنها لا ينال جوهرها الذي هو حقيقة الانقطاع وحق القرب من الله تعالى.
إن ظاهر الصلاة هو الأحكام الشرعية التي نتعرف إليها في الرسائل العملية، وباطن هذه الأحكام هو الآداب المعنوية، فمن لم يراع ظاهرها لا صلاة له، كما أن من لم يراع آدابها المعنوية لا يصل إلى نورانيتها.
يقع البعض في اشتباهات كثيرة حين لا يعلمون الحدود الفاصلة بين الظاهر والباطن. وهنا يوجد عدة توجهات:
التوجه الأول: أهل الظاهر الذين لا يؤمنون بباطن الشريعة بل ويعدون مثل هذا الحديث بدعة ولغواً. وعندهم لا معنى لحضور القلب والإخلاص في النية ونفي الخواطر. بل يكفي أن يصدر العمل موافقاً في ظاهره لظاهر الشريعة.
التوجه الثاني: أهل الباطن الذين أهملوا الظاهر واعتبروه قشرة أو وسيلة فاقدة للاعتبار بحد ذاتها. واعتبروا أن الأساس هو في بلوغ الباطن بأية وسيلة. وعلى أثر هذا التفكر لم يعد للأحكام الظاهرية قيمة تذكر وأجاز الكثيرون منهم الرجوع إلى طرق الفرق والمذاهب الأخرى من البوذيين وغيرهم.
التوجه الثالث: عند أولئك الذين اعتبروا أن لظاهر هذه الشريعة باطناً، بل لباطنها بطوناً لا يدركها إلا من سار في مراتبها. وإن الوصول إلى الباطن لا يمكن أن يتم من دون الدخول عبر الظاهر. فعدّوا الظاهر شرطاً للباطن والباطن حقيقة وروحاً للظاهر.
وينبغي أن نشير إلى أن انتشار وفهم ورسوخ هذا التوجه الثالث ليس حاصلاً في مجتمعنا. بل ما زال يعاني من الكثير من العقبات والمعوّقات على مستوى فهمه وتطبيقه، وحتى عند أولئك الذين يعتقدون بالإجمال به. ذلك لأن عملية الانتقال من الظاهر إلى الباطن ما زالت تخضع للكثير من الاعتبارات التي تقف على رأسها سيطرة الأفكار القديمة والطرق التقليدية. كثيرون هم الذين يعتقدون أن رعاية الظاهر هي التي تنجي من النار وأن رعاية الباطن هي التي ترفع الإنسان في مراتب العرفان. ولذلك فإنهم بمجرد أن ينتهوا من أداء الواجب الظاهري حتى ينهضوا للبحث عما يمكن أن يشفي غليلهم ويروي ظمأهم وعطشهم هنا وهناك. ولكن لهؤلاء نقول أن الوصول إلى إرواء الباطن لا يحصل إلا برعاية الظاهر والتوغل فيه. وإن جميع التشريعات الظاهرية هي الطريق الوحيد لنيل حقيقة العرفان والقرب.
وخلاصة الكلام الأول: إن أحد أهم مبادئ العرفان الأصيل هو معرفة العلاقة الواقعية بين ظاهر الشريعة وباطنها.
* سر التكليف الإسلامي:
لعلك أيها القارئ العزيز أصبحت مستعداً لما سنذكره ونتلوه على مسامعك حول أحد الأسرار الشريفة للتشريعات الإلهية وأحد الحكم الربانية لمنهاجها الأقوم.
فأنت إذا أردت سلوك هذا الطريق ووضعت لنفسك برنامجاً شاملاً لجميع الواجبات ووضعت على رأسها جميع المحرمات التي يجب تركها فسوف تجد. وبناءً على النظرة الإلهية الصحيحة للشريعة التي تشمل الظاهر والباطن. كمَّاً هائلاً من الأوامر والنواهي، وأنك إذا حاولت البدء من البعض تملكتك الحيرة لأنك ستشعر بتقصيرك بالنسبة للبعض الآخر. فماذا أقدم؟ وعلى أي أساس؟ وهل يصح ذلك؟
ولكن سرعان ما يأتي الجواب من رب رحيم ورسول كريم لا ينطق عن الهوى يشرع لنا منهاجاً أقوم وسبيلاً سهلاً.
إنكم إذا راعيتم اثنين من الجميع ودأبتم في إصلاحهما في أنفسكم فستنالون حظوظ البواقي وتصلون إلى حقوق التوالي. هذا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: سأترك فيكم ثقلين ومصباحين مضيئين، فمن تمسك بهما لن يضل من بعد ذلك ولن يعشو عن الحقيقة ومنارها الساطع: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...".
وقال صلى الله عليه وآله: "أنا أول وافد على العزيز الجبَّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي".
فحساب الخلق كلهم موقوف على هذين الثقلين. إن أدينا حقهما نجونا وعصمنا وإلاَّ فلا.
وكل ذلك لأن جميع أعمال العباد تقوم على هذين الثقلين وتكتسب قيمتها منهما. فإذا فكرت في ما ذكرنا تطلع على منهاج الشريعة في تربية الناس وتخليصهم من آلامهم وانتشالهم من حضيضهم بيسر وسهولة. إنها الشريعة السمحاء التي تأخذ بأيدي الناس بلطف ظاهر إلى أعلى عليين.
وأنت إذا كنت تبحث من بين ركام أحزانك وآلامك عن طريق الخلاص فما عليك إلا التشدد في رعاية هذين التكليفين بكل أبعادهما، وسيكون لهما القيادة لك في جميع أعمالك وعباداتك. وباكتسائهما بكسوة للقبول عند الله تعالى تكتسي العبادات الأخرى حلة المعنى، وتدخل بذلك إلى معانيها الباطنية بيسر وسهولة.
* التمسك بالقرآن الكريم:
التمسك بالقرآن الكريم يحصل من خلال رعاية الآداب المعنوية في قراءته. لأن الهدف هو انتقاش الصورة الحقيقية للقرآن التي هي الكمال المطلق اللامتناهي، وبدون التوغل في باطنه لا تنتقش هذه الصورة، وبدون رعاية آدابه الباطنية لا يتوغل في باطنه.
وفي جميع الآيات الشريفة والروايات والأحاديث لا يقصد من القراءة مجرد لقلقة اللسان والتلفُّظ بالكلام، بل المقصود القراءة الحقيقية التي تجمع الآداب التالية:
1. التعظيم.
2. إزالة الحجب.
3. فهم المقاصد.
4. التدبر.
5. التطبيق.
6. حضور القلب.
7. التمسك بالثقل الثاني.
* التعظيم:
نحن، كيف ننظر إلى القرآن الكريم؟
وإذا قيل لنا أن نصفه بعدة كلمات هل نستطيع أن نعبّر عن حقيقته؟! هل يمكن للإنسان العادي أن يحيط بعظمة القرآن، فيعظمه حق تعظيمه؟
إن التعظيم ينشأ من إدراك العظمة والمقام. والعظمة هي الحقيقة. فمن لم يدرك الحقيقة لا يمكنه أن يعظم القرآن كما هو أهل لذاك. لأن حقيقته هي مقام الاسم الأعظم وجمع الأسماء الربانية وتجلي الصفات الإلهية التي هي في مقام الإطلاق ولا يحيط بها إلا الكمل من أولياء الله الذين تحققوا به بأعيانهم.
أما نحن فغاية تعظيمنا هي الاعتراف بالعجز عن أداء حق التعظيم أي العجز عن حقيقة الإدراك.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"إن الله تبارك وتعالى لسعة رحمته بعباده أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه وتنزل به حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم الظلماني وسجن الطبيعة وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لاستخلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وإيصالهم من حضيض النفس والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة الإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين، بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطلبهم" (الآداب المعنوية ص323).
وحقيقة التعظيم هي أن يلحظ القارئ للقرآن في كل سوره وآياته عظمة المتكلم به ومنزله. حيث أن هذا الكتاب العظيم قد جمع كل جوانب العظمة والقدسية، فمنزله وحامله وشارحه ومبينه ووقت تنزيله وكيفية نزوله، كل هذه الأمور مستجمعة لأعلى مقاصد العظمة.
فالذي أنزله هو الله سبحانه جامع كل صفات الجمال والجلال على نحو الإطلاق، والذي تجلى بها لكل العالمين، وعجزت عن إدراك كنه ذاته قلوب العارفين. وهو الذي لا يمكن الإشارة إليه لا بالجسد ولا بالرسم ولا بالاسم لأنه أعلى وأجل من أن يوصف وأكبر من أن يحاط به سبحانه وتعالى عما يصفون.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الله تجلى لخلقه بكتابه ولكن لا يبصرون".
وحامله هو جبرائيل أمين الوحي وملك الملائكة المقرّبين وصاحب المقام الأمين عند ذي العرش مكين، ولا يعرف قدره إلا أولياء الله في العليين الذين هم في رتبة أولى العزم من النبيين.
فلقد اختار الله سبحانه لحمل هذه الأمانة الكبرى أعظم ملائكته وسكان سماواته.
أما شارحه ومبينه فهو الرسول الأعظم صاحب المقام الأكرم أعظم خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله وخلفاؤه العظام أصحاب السر المكنون والمقام المصون صلى الله عليهم أجمعين.
ونحن قد طوينا عن ذكرهم في هذه العجالة صفحاً لا للعجالة والنسيان بل بسبب العجز والفقدان. ومن ذا يعرفهم، وهم الأسماء الكبرى خدامهم الملائكة وتلامذتهم الأنبياء وأرواحهم فوق السماء عند ساق العرش في أعلى البقاء.
ولولاهم. صلى الله عليهم أجمعين. لما كان للقرآن ظهور في عالم الإنس والجان، وبهم حُفِظ ويحفظ مصوناً إلى يوم القيامة وعليهم ختم الكتاب وهيمن على الرسالات إلى يوم الوقت المعلوم.
أما وقت تنزيله فهو ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر جامعة أسرار الوجود، ومحفل التقدير والتدبير على يد صاحب الأمر والزمان.
فإذا لاحت لنا لائحة من أسرار هذه العظمة، وشعرنا بعجزنا عن أداء حق التعظيم، وارتبطت قلوبنا بهيمان الشوق والوجد إليه، اقتربنا كثيراً من أسرار القرآن، وأصبحنا على قاب قوسين من تحصيل هداية الفرقان، وأنه لذكر لمن اتقى.
إن رعاية هذا الأدب المعنوي لها شأن عظيم ودور كبير في حصول هداية القرآن وهطول أمطار معانيه في القلوب.
فهذا الكتاب الإلهي يمكن أن يكون باباً لشقاء البعض وضلالتهم كما قال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة/26).
فمن الممكن. لا سمح الله. أن يتحول هذا الكتاب الإلهي إلى عنصر لإضلال البعض إذا لم يراعوا هذا الأدب المعنوي. لأن من يقرأ القرآن وهو مستخف بعظمته سيجعل بينه وبين القرآن حجاباً مستوراً.
انظروا إلى كل أولئك الذين قرأوا أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام من استفاد حق الاستفادة. إننا إذا راجعنا التاريخ نجد أن هناك العشرات من الذين درسوا عند الإمام الصادق عليه السلام، ولكن هل كل من درس بين يديه وتعلم عنده وصل إلى مراد الإمام. آلاف من العلماء لم يعرفوا شيئاً سوى ظاهر القول لأنهم لم يعرفوا قبل ذلك مقام الإمام الحقيقي، وهو أنه ولي معصوم لا ينطق عن الهوى. فقط أولئك الذين هم في الحقيقة جعلوا أحاديثه وكلماته، سيرته ومواقفه حجة كبرى فغاصوا في البحث والتفكر وقلبوا الكلام أكثر من مرة بحسن الثقة وجودة النظر فانكشفت لهم كنوز الكلام وجواهر المعاني الباطنة واطلعوا على حقائق كبرى ودقائق عظمى لم تكن لتتسنًى لهم أو لينالوها بدون هذا النظر الذي ينطلق من التعظيم الحقيقي.
عندما تعرف عظمة القرآن أو تعيش مثل هذا التوجه إلى عظمة لا يحاط بها فلن يكون القرآن نهراً راكداً أو بحراً صغيراً بل سيتسع في وجودنا إلى الدرجة التي تفنى معها كل الحجب وتزول كل السدود وتبدأ نغرف من عذب مائه الذي لا ينضب.