السيّد عبّاس نور الدين(*)
ورد عن أمير المؤمنين ومولى الموحّدين عليه السلام قوله: "وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لأهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، في أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ"(1).
*من أعظم النِّعَم
وعن الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاته: "... وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنَا جَرَيَانُ ذِكْرِكَ عَلَى أَلْسِنَتِنَا.."(2).
إنّ كلّ من التصق بالثّقافة الإسلاميّة واعتزّ بالانتماء إلى قيم الدّين الحنيف يدرك أنّ الذّكر من أعظم الكمالات وأجلّ الفضائل والمكرمات.
ولعلّه لا يوجد مدح لشيء في التّراث الدّينيّ المعصوم كمدح الذّكر والذّاكرين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً": "إنّ تذكّر الحقّ جلَّ وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبوديّة والذلّ أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين"(3).
ويقول قدس سره في معراج السّالكين حول آداب الصّلاة المعنويّة: ومقام الذّكر من المقامات العالية الجليلة التي لا يسع المجال لبيانها. وهو فوق حدود التّقرير والتّحرير. وتكفي لأهل المعرفة والجذبة الإلهيّة وأصحاب المحبّة والعشق الآية الشّريفة الإلهيّة. وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: "يا موسى أنا جليس من ذكرني"(4). وفي رواية الكافي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكثر ذكر الله أحبّه الله". وفي الوسائل بإسناده إلى الصّادق عليه السلام قال: "قال الله عزّ وجلّ: يابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، يابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، يابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك". وقال: "ما من عبد ذكر الله في ملأ من النّاس إلّا ذكره الله في ملأ من الملائكة"(5).
*أهمّ ما في الذّكر
إلّا أنّ هذه الحقيقة قد تعرّضت، كغيرها من القيم الدينيّة الرّفيعة، لسوء فهم أفقدها بريقها وموقعيّتها وسط منظومة القيم الدّينيّة. فأُنزلت إلى مستوى لقلقة اللسان والتفوّه بمجموعة من الألفاظ والعبارات.
هذا، مع أنّ أهمّ ما في الذّكر هو حضور القلب وتوجّهه إلى المعاني ومعايشته لها في تفاصيل الحياة. ولعلّ هذا الأمر هو ما حدا بالإمام الصّادق عليه السلام إلى أن يقول: "مِنْ أَشَدِّ مَا فَرَضَ اللّهُ عَلَى خَلْقِهِ ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيراً، ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْنِي سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله وَالله أَكْبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، وَلَكِنْ ذِكْرَ اللهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً عَمِلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً تَرَكَهَا"(6).
فحقيقة الذّكر والذّكر الحقيقيّ هما ملاحظة الحقّ بشؤونه الجماليّة والجلاليّة في تفاصيل الحياة بآفاقها والأنفس وأحداثها وقضاياها المختلفة. وليس هذا إلّا لأنّ الله تعالى هو هكذا: حاضر دوماً، ومشهودٌ أبداً على كلّ شيء. فكيف يغيب عن الأشياء وهو خالقها ورازقها وبيده ناصيَتها وهو على كلّ شيء شهيد؟
فالغفلة عنه بمنزلة الغفلة عن حقائق العالم والحياة والأحداث. ومن غفل عن هذه الحقائق لم ينتفع بشيء ولا ينفعه شيء.
*الذِّكر ارتباط بالحقّ
إنّ ذكر الله يعني أن نكون متّصلين بالحقيقة ومرتبطين بالحقّ. وما سوى ذلك وقوع في الباطل واستغراق في البطلان. وهذا هو سبب كلّ شقاء. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً﴾ (طه: 24).
كلّ معاناة، وكلّ ألم نفسيّ، وكلّ اضطراب يرجع إلى غلبة الوهم. وكلّ الأوهام هي إلقاءات الشّيطان ووساوس إبليس. فمن لم يشغل قلبه بذكر الحقّ المطلق، شغلته الأوهام والأباطيل وصوّر عدوّ الله الحياة والوجود غير صورته الحقّة التي ترجع إلى الله ذي الجلال والإكرام.
ومن هنا كان التعلّم المفضي إلى العلم بالحقائق ذكراً، بل من أعظم مصاديق الذّكر. وكانت الصّلاة ذكراً؛ لأنّها جامعة لأصول الحقائق الكبرى. وكان القرآن الكريم ذكراً؛ لأنّه المحصي لكلّ الأشياء، كما هي، كما قال تعالى: ﴿وَكُلّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً﴾ (النبأ: 29).
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "بالذّكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتُزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتُفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى والألطاف والرّحمة الإلهيّة"(7).
*الدنيا المذمومة
إنّ الدّنيا المذمومة هي كلّ شيء يشغل عن الله. ولهذا لا تكون الأرض والسّماوات مذمومة؛ لأنّها محلّ ظهور آيات العظمة الإلهيّة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "واعلم أنّ ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضاً عن جميع منازل الطّبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكلّ ما فيه عدماً لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتّى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزناً لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبَر في نفسه بسبب هذه الواردات، بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله"(8).
فأوّل خطوة نحو هذا المقام هي أن نعرف معناه حتّى لا نقع في حجاب الألفاظ والمصطلحات. ومن بعدها ضرورة أن نفهّم قلوبنا أهميّته وعظمته بمعرفة آثاره ونتائجه، ونكرّر على مسامع قلوبنا هذه الحقائق حتّى تشتاق إليه بحقيقته وتصدّق بأولويّته وعلوّ شأنه على سائر المقامات.
*كثرة التفكّر تبعث في القلب الذِّكر
فإذا حصل الاشتياق وجب تأمين مادّته وهي التي تحصل من خلال التفكّر في الآثار والآيات التي هي مظاهر جمال الحقّ تعالى جلاله. فإنّ كثرة التفكّر هذه توقظ القلب وتبعث فيه الذّكر. ويعني ذلك أن لا تنحصر هذه المعاني في إطار الأفكار، بل تسري إلى المشاعر والحالات ومنها إلى الأفعال والتصرّفات. وهناك تصبح صورة الفعل على طبق صورة الذّكر وحقيقته، فيحصل الانسجام التامّ بين حركة الإنسان السّلوكيّة وبين مقتضى حقائق العالم ومكوّناته التي هي مركب كلّ سالك في رحلة سيره إلى الله تعالى.
*اذكروني أذكركم
وعَنْ الإمام أَبي جَعْفَرَ عليه السلام قالَ: "مَكْتُوبٌ فِي التَّوراةِ الَّتي لَمْ تُغَيَّر أَنَّ مُوسى عليه السلام سَأَل رَبَّهُ فَقالَ: يا رَبِّ أَقَريبٌ أنْتَ مِنّي فَأُناجيك، أمْ بَعيدٌ فَأُناديكَ؟ فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ: يا مُوسى أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي. فَقالَ مُوسى: فَمَنْ في سِتْرِك يَوْمَ لا سِتْرَ إِلّا سِتْرُكَ؟ فَقالَ: الَّذينَ يَذْكُرُونَني فَأَذْكُرُهُمْ وَيَتحابُّونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ فَأُولئِكَ الَّذينَ إِذا أرَدْتُ أنْ أُصيبَ أهْلَ الأرْضِ بِسُوءٍ ذَكَرْتُهُمْ فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِم"(9). يُستفاد من هذا الحديث الشّريف، أنّ لذكر الله والتّحابّ بين الأشخاص في سبيل الله، خصائص: إحداها - وهي الأهم - أنّ ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده، كما نطقت بهذا المضمون أحاديث أخرى أيضاً. ويقابل هذا الذّكر النّسيان، فقد قال سبحانه وتعالى عن النّاسي في القرآن ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ (طه: 126).
*باعث على حدَّة البصيرة وإزاحة الحُجُب
فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطنيّ عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبّب عمىً في العالم الآخر، يكون التّذكّر للآيات والأسماء والصّفات وتذكّر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حِدّة في البصيرة، وإزاحة للحجب، بقدر قوّة التّذكّر ونورانيّته. هذا، وإنّ تذكّر آيات الحقّ سبحانه، وصيرورته، هذا التّذكّر، ملكة راسخة في الإنسان تجعل لبصيرته قوّة، فيرى من خلال الآيات، جمالَ الحقّ. وإنّ تذكّر الأسماء والصّفات يبعث على مشاهدة الحقّ في تجلّيات أسمائه وصفاته. وإنّ تذكّر الذّات عزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصّفات، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب. ويعتبر هذا التفسير واحداً من التّوجيهات والتّفسيرات للفتوحات الثّلاثة التي هي قرّة عين العرفاء والأولياء وهي: الفتح القريب، الفتح المبين، الفتح المطلق الذي هو فتح الفتوح"(10).
(*) مؤلف كتاب "سفر إلى الملكوت".
1- نهج البلاغة، خطبة 221.
2- الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الذاكرين، ص418.
3- الأربعون حديثاً، روح الله الموسويّ الخمينيّ، ترجمة محمد الغروي، ص296.
4- الكافي، الكليني، ج2، ص496.
5- معراج السالكين، روح الله الموسويّ الخمينيّ، ترجمة السيّد عبّاس نور الدّين، ص227.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 80.
7- جنود العقل والجهل، روح الله الموسويّ الخمينيّ، ص234 - 124.
8- م.ن، ص304.
9- الكافي، م.س، ج2، ص497.
10- الأربعون حديثاً، م.س، ص323 - 324.