الشهيد مرتضى مطهَّري قدس سره
يُجمع المؤرّخون على أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم قد أولى عليّاً عليه السلام رعايةً خاصّة منذ نعومة أظافره، ولم يتعرَّف
عليّ عليه السلام إلى غير أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد لازمه ملازمة
الظلّ، يذهب معه إلى كلّ مكان، حتّى عندما كان الرسول يخلو إلى ربّه في تعبُّده.
*سبب كفالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليه
السلام
يكاد يجمع المؤرّخون على أنّ الضائقة الاقتصاديّة التي حلّت بعمّه أبي طالب رضوان
الله عليه وكثرة عياله، هي التي دفعت الرسول إلى الإقدام على تكفّل عليّ.
فقد ذكر المؤرّخون أنّ القحط قد عصف بأسرة أبي طالب، ما حدا بالرسول صلى الله عليه
وآله وسلم إلى أن يقترح على عمَّيه الحمزة والعباس التخفيف من أعباء أبي طالب رضوان
الله عليه. وقد احتفظ أبو طالب بعقيل لنفسه، وسمح لهم بباقي أولاده، فأخذ العباس
طالباً، وأخذ الحمزة جعفراً، وتكفّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً.
وهذه القصة تبدو بعيدة عن الواقع لأسباب، منها: أنّ عليّاً - كما يجمع المؤرّخون -
كان في سنّ الخامسة أو السادسة من عمره وأنّ جعفراً كان يكبر عليّاً بعشرة أعوام،
وأنّ عقيلاً كان يكبر جعفراً بعشرة أعوام، أيضاً، كما أنّ طالباً أكبر من عقيل
بعشرة أعوام، هو الآخر، وعلى هذا، فإنّ طالباً يكون في سنّ الخامسة والثلاثين،
وعقيلاً في سنّ الخامسة والعشرين، وجعفراً في الخامسة عشرة؛ فمن غير المعقول أن
يتكفّل أحدٌ رجالاً بهذه الأعمار. أضف إلى ذلك، أنّ حمزة كان له من العمر آنذاك
خمسة وثلاثون عاماً، أي بقدر سنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسنّ طالب الذي
لم يرد له ذكر في بعض الروايات التي أشارت إلى موضوع الكفالة، كما أهملت ذكر حمزة
أيضاً.
إذاً، هناك تضارب في الروايات، ولا نعلم مدى صحّتها، خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار
أنَّ تكفّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام لم ينحصر في سنة
واحدة أو سنتين، بل امتدّ لسنين طويلة، وكان يرافق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
حتى في أماكن تعبّده. كما أنّ العلاقة الاستثنائيّة التي حظي بها الإمام، من لدن
النبيّ، والعطف والحنان والاهتمام، لا يمكن تفسيرها بأنها محاولة من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لردّ الجميل لأبي طالب الذي تكفّل طفولته.
*أيّ بنيك أحبّ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟
يذكر ابن أبي الحديد رواية عن ابن عباس أنّه سأل أباه العباس بن عبد المطلب: "أيّ
بنيك أحبّ إلى رسول الله؟ فأجاب العباس: عليّ؛ فقال ابن عباس: أنا أسألك عن بنيك،
وأنت تجيبني: عليّ؟! فقال الأب: لقد كان رسول الله يحبّ عليّاً حبّاً لم يحبّ به
أحداً غيره".
إنّ هذه الرعاية الخاصّة التي أولاها النبيّ لعليّ مُذْ كان صبيّاً إنّما كانت
إعداداً له؛ لكي يكون وزيره وناصره في المستقبل، وليكون منه بمنزلة هارون من موسى،
إلّا في النبوّة.
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام عن هذه الفترة من حياته: "ولقد كنت أتّبعه
اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء
به"1.
*عبقٌ من الكلام النبويّ
هكذا نشأ عليّ، كغصن في شجرة، كلاهما يتغذّيان من جذر واحد، كما عبّر الإمام: "وأنا
من رسول الله كالصنوّ من الصنوّ، والذراع من العضد"2.
وقد بلغ تأثّر الإمام بأخلاق الرسول ومسيرته، وذلك التشابه المدهش بين الشخصيّتين
في المواقف، حدّاً جعل الشريف الرضيّ يذكر ذلك لدى جمعه خطب أمير المؤمنين في نهج
البلاغة، فيقول في مقدّمته:
"عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ".
*نهج البلاغة أعظم تراث بعد القرآن
إنّ الإمام لم يترعرع في أكناف شخص أو معلّم عادي، وإنما تربّى في أحضان الرسالة
الإلهيّة. وهذا نهج البلاغة، وبغضّ النظر عن قيمته البلاغيّة بحيث اعتبره الشريف
الرضيّ وسمّاه "نهجاً للبلاغة"، فإنّه يزخر بالمعارف الإسلاميّة الواسعة والكنوز
الإنسانيّة الثرّة، تجعله أعظم تراث إسلاميّ بعد القرآن على الإطلاق.
لقد كان الأعداء والأصدقاء يتهافتون على حفظ كلماته. وكانت خزائن الأمويّين، وهم
أشدّ الأعداء، تزخر بخطبه وأحاديثه. فهذا عبد الحميد، الكاتب الشهير، الذي كان يكتب
لمروان بن محمّد آخر الخلفاء الأمويّين، وهو كان مضرب المثل في البلاغة والفصاحة،
عندما قيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: "أحفظ كلام الأصلع" يعني بذلك عليّ
بن أبي طالب عليه السلام.
ويقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" مشيراً إلى مقولة الإمام عليه السلام: "قيمة
كلّ امرئٍ ما يحسنه: لو لم يكن في الكتاب إلّا هذه العبارة لكفى، بل لزاد على
الكفاية. وأفضل الكلام ما قلّ ودلّ"، ثم يقول: "وكان الله عزَّ وجلَّ قد ألبسه من
الجلالة، وغشّاه من نور الحكمة على نيّة صاحبه وتقوى قائله". ولم يكن الجاحظ من
شيعة عليّ أو محبّيه، بل كان معادياً "وكان مائلاً إلى النّصب" على ما ورد في كتب
التاريخ.
*خصائص نهج البلاغة
إنّ نهج البلاغة يعدّ كنزاً نفيساً ونبعاً ثرّاً يغذّي الروح، ويهب القلب الطمأنينة
والسلام. إنّه دائرة معارف إنسانيّة كبرى، فهو يزخر بمختلف البحوث والتحاليل
الفكريّة الدقيقة بدءاً بتوحيد الله، وصفاته، وأسمائه، والنبوّة، والمعاد، وأسرار
الخلق، ووجود العالم، ونشأة الإنسان، وبعثة الأنبياء، إلى المسائل الإسلاميّة
والقرآنيّة العديدة، إلى القضايا الإنسانيّة المختلفة والمواعظ المؤثّرة والأخلاق
الرفيعة: من صبر، وشجاعة، وعفّة، وتقوى، واستقامة، وهمّة، وإرادة؛ كلّ ذلك بأسلوب
رفيع خلّاب يأخذ بالنفوس وبالألباب.
كما يضمّ بحوثاً اجتماعيّة دقيقة، تحلّل الفتن وأسبابها وآثارها، والخلافات
وأضرارها، والعزّة وشوكتها، والذلّة وخسائرها، وواجبات الحاكم والتزامات الرعيَّة،
ووظائف المجتمع، وغير ذلك من شؤون الحياة. إضافة إلى شؤون الحرب والجهاد والقيادة،
إلى غير ذلك من الحوادث التي عصفت بالبلاد الإسلاميّة وجرّت عليها الويلات، كمصرع
عثمان، وحرب الجمل، وصفين، ومسألة التحكيم، وقضيّة الخوارج.
إضافة إلى قسم يشتمل على الملاحم، وحوادث المستقبل التي سمعها من الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، كمستقبل البصرة والكوفة، وفتنة الزنج، واستبداد عبد الملك،
والحجّاج بن يوسف، وما سيؤول إليه مصير الأمويّين.
كما يضمّ أيضاً سياسته ومنهجه في الإدارة، والحكم، وغير ذلك من الأحكام الإسلاميّة.
كما يزخر ببيانات الحرب والإقدام، وبالصور العرفانيّة الرفيعة، والسير إلى الله،
حيث حَظِي التوحيد، وصفات الباري جلّ وعلا، باهتمام كبير، الأمر الذي يجعل المرء
يؤمن إيماناً قاطعاً بأنّ هذه الشخصيّة إنّما استقت نورها مِن مشكاة النبوّة ومن
عالم المعاني، يقول جبران خليل جبران: "جاور الروح الكلّيّ وسامَرَها".
ومن الموضوعات التي أولاها الإمام عليه السلام اهتماماً في خطبه وأحاديثه مسألة حبّ
الدنيا، والزهد فيها والاتّجاه نحو الآخرة، وذكر الموت واغتنام فرصة العمر.
ويضم نهج البلاغة بين دفَّتيه بحوثاً في مسألة الحقوق، فلقد كان عليه السلام مثالاً
للعدل والمساواة، فانعكس ذلك على أحاديثه وكلماته، فهو القائل: "الذليل عندي عزيز
حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه"3.
ومن المسائل الأخرى التي يضمّها الكتاب، تلك التي تبيّن منهج الإمام في الإدارة
والحكم والسياسة، بعيداً عن الكذب والحيلة والمكر والنفاق.
لقد كانت حياة أمير المؤمنين تجسيداً لكلّ الكلمات التي نطق بها، فلم يكن يتكلّف
الحديث في موضوع معيّن، بل كان مثالاً لكلّ ما قال، وفعلاً لكلّ كلام، وكان في قمّة
الزهد وهو يتحدّث عن الزهد، وكان في قمّة العرفان وهو يشير إليه، وكان في قمّة
الإخلاص للإسلام عندما يؤكّد على وجوب التضحية في سبيل إعلاء كلمة الحقّ. ولقد
اجتمعت في شخصيّته جميع الفضائل الإنسانيّة، ما جعله مثالاً تقدّسه البشريّة جمعاء.
1- نهج البلاغة. خطبة (224) "القاصعة".
2- م.ن. كتاب (45).
3- م.ن. خطبة (37).