تحقيق: جنان شحادة
من منّا لم يشكُ يوماً من ظروف حياته المتشابهة بتفاصيلها إلى حد كبير، ومن أيامه التي تدور في فلك واحد، ومن ذكريات لا يختلف فيها إلّا موقع عقارب الساعة، وتتشابه بكلّ شيء؟
من منّا لم يشعر بأنّ يومه مرّ من قبل، أو أنّ الحادثة التي تصادفه هي جزء من مسرحيّة شاهد عرضَها مسبقاً، وحفظ ممثّليها عن ظهر قلب؟
إن كنت واحداً ممن تنطبق عليه الأفعال السابقة، ومرّ ببعضها أو بجميعها، فأنت تعاني من "الروتين" الذي يصادف أُناساً في منازلهم أو مدارسهم، في جامعاتهم أو حتى في أعمالهم، ويصادف بعضهم الآخر كيفما اتجه وأينما دار.
ما هو الروتين؟ وما هي أنواعه وتأثيراته؟ وهل هناك طرائق عملانيّة لمواجهته؟ نقاط كثيرة ندعوكم إلى الاطلاع عليها في هذا التحقيق.
*وائل والخمسة عشر عاماً
يعمل وائل منذ خمسة عشر عاماً في المؤسّسة ذاتها، وفي المنصب عينه، وبالراتب نفسه، لم يتغيّر شيء منذ ذلك الوقت إلّا هو.
يتحدّث وائل عن الضيق الذي يخالج صَدره عندما يَهمُّ بالدخول من باب المؤسسة، وعن الآلام التي يشعُر بها في رأسه، عندما يبدأ بالعمل. يصنّف وائل ما يحدث معه بأنها تأثيرات الروتين الذي يشعر به في العمل. يردّد كثيراً كلمة "روتين" أثناء حديثنا معه، نسأله: "ما هو الروتين برأيك؟"، فيجيب بسرعة: "أن تعيش اليوم نفسه بتسمياتٍ مختلفة تبدأ من الاثنين وتنتهي بالأحد".
*مفهوم الروتين (الرتابة)
يقدّم الطبيب النفسي والمتخصّص في علاج الإدمان الدكتور فضل شحيمي تعريفاً لغوياً للروتين بأنه مصطلح أجنبي دخل لُغتنا وعقولنا، وتربّع على عرش المفردات الدّخيلة حتى بات مستهلكاً من قبل الخاصة والعامة. ويشير إلى أنّ البعض يفسّره بمعنى النمطيّة أو العادي، أو التكرار والنظام، ويؤكّد أن ما يعنينا في هذا المصطلح هو الآثار والنتائج التي يتركها على حياتنا النفسيّة، وعلى شخصيّتنا.
*دراسات ونتائج
ويذكر الدكتور فضل شحيمي دراسات قام بها علماء علم النفس الصناعي تتحدّث عن واقع العمّال في المصانع، حيث وجدوا أنّ العامل وبعد مرور بضع سنوات على عمله في المصنع تتناقص دافعيّته للعمل، ويصاب بالملل، وتغزوه حالة التوتر والقلق، ولا سيما في الساعات الأخيرة من ساعات العمل اليومي، ما يتسبب بتدني نسبة الإنتاج.
ويشرح الدكتور فضل شحيمي أن هذه الأسباب ليست بيولوجية، بسبب التعب واستنزاف الطاقة، بل إن الأسباب الحقيقية كما يرى هؤلاء العلماء هي: القلق الجزئي، الشرود، والتوتر.
وهذه الأسباب، كما يرى شحيمي، جعلت أخطاء العمّال تزداد بشكل أكبر، وأدّت إلى إضعاف التركيز والقدرة على الاستيعاب، ونَتج عنها الضيق من أوامر وتوجيهات الرؤساء والمسؤولين، وكثُرت حالات النزاع بين العمّال وأرباب العمل، والتي تصل، في أغلب الأحيان، إلى حدّ الفصل من العمل.
*ابتسام والملل
توجّهنا إلى ابتسام (موظفة رسمية في إحدى الدوائر الإدارية)، طلبنا منها أن تصف لنا عملها فأجابت: "مملّ جداً، نحتاج إلى العودة إلى مديرنا المباشر والمدير العام في كلّ نقطة وكلّ تفصيل، يضيع معظم وقتي في أسئلة يمكنني البتّ فيها لوحدي لو سمحت الإدارة لي".
إذاً، الاستغراق بالتفاصيل، قتل التفكير، انحكام الموظفين إلى القوانين فقط ، كساد العلاقات الشخصيّة بين الموظفين، ارتهان العمل إلى الدوام الصارم لا الإنجاز، عناوين كثيرة يمكن ضمّها إلى سلّة "الروتين"، الذي يعرّفه الدكتور نبيل ألماس الاختصاصي في التنمية الاجتماعية/ جمعية أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي، بالقول: إنه قيام الشخص نفسه مثلاً، بالعمل نفسه، وبالطريقة نفسها، وبشكل منتظم.
ويشرح د. نبيل ألماس أنّ من أهمّ الأسباب التي تكرّس النمط الروتيني في العمل، هو تركيز أصحاب العمل والمديرين على آلية إنجاز الأعمال (كالسرعة، الجودة، والكمية) وإهمال الاهتمـام ببيئـة العمل (الاجتماعية والمكانيّة) وما يرتبط بها من علاقات اجتماعية، وحالات نفسيّة، يمكن، في حال إيلائها العناية، أن تُضفي أجواء التحفيز والحيويّة بين العاملين.
*الروتين والمشاكل
يخلّف الروتين الكثير من الآثار السلبية على الموظّفين بالدرجة الأولى، وبالتالي على العمل. ويشير الأستاذ نبيل ألماس إلى أن الروتين سببٌ رئيس للإصابة بالضغوط النفسية وما قد ينتج عنها من إحباط أو اكتئاب. ولكن، ينبغي الالتفات أيضاً، إلى أن الضغوط النفسيّة في الحياة، قد تكون في أحيانٍ كثيرة هي السبب في الأداء الروتيني في العمل.
ففي بعض الأحيان، وعلى الرغم من كفاءة الفرد ومقدرته على القيام بعمله، فإنّ إحساسه بالضغوط أو الملل والإحباط، ستنتج عنه الرتابة في الأداء، ما يؤدي، طبعاً، إلى تدنّي مستوى أدائه وإنتاجيته. ولفت د. ألماس إلى بعض الدراسات الذي أظهر أن الإحساس بالملل الناتج عن العمل الروتيني، يمكن أن يتسبّب في خمول ظرفي للدماغ، ما قد ينتج عنه الوقوع في هفوات وأخطاء خلال تأدية المهام.
*المدير والإدارة، اثنان في واحد
وبعد الحديث عما للروتين من آثار سلبية ومن انعكاسات على العامل أولاً وإنتاجية العمل بالدرجة الثانية، يأتي السؤال الأهم: "من المسؤول عن معالجة هذا النمط الذي قد يقلب العمل رأساً على عقب؟".
يُجيب الدكتور فضل شحيمي على هذا السؤال فيقول: "للرئيس أو المدير المسؤول الأثر الكبير في إحداث التغيير في الإنتاجيّة، وفي مواجهة شبح الروتين. ويجب عليه أن يُحسنَ اختياره وفق معايير تأخذ بالاعتبار شخصيّته ونسبَة ذكائه ومقدرته على إدارة المجموعة، وخلوّه من المشكلات والأمراض النفسيّة التي غالباً ما تظهر من خلال سلوكيّاته الشاذة وغير المنطقية".
ولذلك، فإن تعيين هذا المسؤول أو الرئيس يخضع في المؤسسات المحترمة والمتقدمة لمعايير عدّة: نفسيّة، واجتماعية، وكفاءات وقدرات وأمور أخرى، وليس بينها طبعاً المحسوبيّة والاستنسابيّة. ويحدّد شحيمي، أيضاً، دور الإدارة في أيّ مؤسسة، فالإدارة ليست بالمدير، بل هي منظومة الأشخاص الذين يتوزّعون المسؤولية في المؤسسة، فيتعاونون ويتكاملون ويتبادلون الأفكار ولا يتراشقون الاتهامات، لأن إلصاق التقصير أو الفشل بالآخر من شأنه أن يتسبب بإحداث خلل في المؤسسة.
*لكَ أيها المدير
خلال إعدادنا لهذا التحقيق قابلْنا مازن الذي أكّد لنا أنه يواجه مشكلة الروتين في كل عمل يزاوله، وهذه المشكلة كانت سبب تقديم استقالته في الكثير من المرات، وأنه لم يفلح ولو لمرة في البقاء في عمل واحد، أكثر من سنة واحدة!
الأستاذ نبيل ألماس اعتبر أن العلاج الأساسي لكَسر الروتين وتفادي سيطرته على العمل، لا ينبع فقط من أنظمة إدارية، بل يعتمد أيضاً على قُدرة ومهارة أصحاب العمل والمديرين، وعلى إنعاش بيئة العمل وبثّ الحيوية فيها وتحفيز العاملين، وزرع قيمة الانتماء لهذه البيئة.
ولأن المدير هو الحجر الأساس في البناء كلّه، بسبب قدرته على إحداث الفرق في مؤسسته من خلال خطوات بسيطة يمكن أن يقوم بها، قدّم الدكتور فضل شحيمي نصائح يمكن للمدراء القيام بها ويمكن لبقية الناس الاستفادة منها:
1- إحداث فترات استراحة بين الساعة والساعة.
2- إدخال الموسيقى المهدئة للأعصاب.
3- دفع بعض المكافآت والحوافز.
4- التبديل الدوري في مراكز العمل وذلك بعد إجراء التدريب طبعاً.
5- المعالجة النفسية المسبقة للعمّال والموظفين، وذلك عن طريق تعيين مرشد نفسي ولا سيما في المؤسسات الصناعية الكبيرة، يعود إليه العمّال والموظّفون عند الشعور بأي نوع من أنواع التوتر.
6- احترام العامل أو الموظّف وتقديره وعدم الضغط الإداري أو النفسي عليه، وتقدير ظروفه الصحيّة والنفسية فهو إنسان وليس بآلة.
7- إقامة ندوات وحوارات من وقت لآخر وخاصّة في أوقات العطل والأعياد وأن تكون مدفوعة الأجر.
*قل لي من أنت، أقل لك ماذا تعمل
فيما يلي سنطلب منك أيها القارئ أن تعرف نفسك، لتعرف أيّ نوع من الأعمال تُناسبك.
- إذا كنت من المتفوقين أو الذين يتمتّعون بنسبة ذكاء عالية جداً، فالأعمال الروتينية لا تصلُح لك، وتستنزف قُدراتك، وتسبب لك المزيد من القلق والهروب من العمل.
- إذا كنت متوسط الذكاء فيمكنك التكيّف مع العمل الروتيني، لكن عليك أن تسعى بنفسك لتخلق جواً من الحياة والنشاط ويمكنك أن تحوّل أيّ عمل، مهما صغر حجمه، إلى مشروعك الخاص الذي يمكنك أن تُبدع فيه. وتذكّر دائماً أن فَهم طبيعة العمل بهذه الروحيّة تجعل منه هواية لذيذة أو ما يشبه الإبداع، وبذلك يخرُج من دائرة الشعور بالملل أو الروتين، ولتتذكر دائماً الحديث النبوي الشريف: "أيها الناس من عمل منكم عملاً فليتقنه وليكمله..."، وهو من أهم أساليب إبعاد الروتين.
- إذا كنت من المسنّين أو المتقاعدين، الذين تسير حياتهم اليومية على نمط واحد، خالٍ من التجديد، فهنا يأتي دور المحيط كما الشخص نفسه، بضخ دم جديد ونشاطات جديدة تتلاءم مع عمر كل شخص، ويجب أن لا ننسى أننا نتعلّم من أوجاع هؤلاء المحاربين القدامى نتعلم كيف يبني الإنسان فرحاً منتزعاً من ظلمات اليأس.