الأستاذ حسين النمر(*)
قد نعتقد أن الأسهل هو القيام بما نقوم به دائماً؛ أعمال روتينية وحلول متكرّرة، فكرةٌ ينساق خلفها الكثير منا دون التفكير فيها، ما أصابنا بشللٍ في التفكير، وأدّى إلى خنق الإبداع، وقتل القدرات. في حين أن الإبداعات هي متغيّرات ومستجدّات يضخّها التفكير المتجدّد الذي يخرج عن إطار التفكير المألوف (المتكرر). والمشكلة الأساس هي في تحوّل التفكير التقليدي إلى تهديد أكبر، لأيّ تغيير يلجأ المجتمع إليه كحاجة ملحّة في تطوّره، وعلاج مشكلاته. والسؤال: كيف يمكن تغيير نمط الإدارة الروتينيّة من رتابتها، وبثّ رياح التغيير وروح الحياة فيها؟
*الروتين الإداري
يتحدث الناس كثيراً عن الترهّل الإداري والروتين الإداري، دون معرفة الأسباب التي تؤدي إلى حدوث هذه الظاهرة في المؤسسات الخدميّة والإنتاجيّة، التي تُعنى بموضوع إكمال الإجراءات الإدارية والقانونيّة في مجالٍ معين... ويشعر الناس عند ذهابهم إلى تلك المؤسسات بمعنى الروتين والترهّل الإداري بصورة حقيقيّة وواقعيّة كونهم يريدون إكمال أعمالهم ومعاملاتهم بصورة سريعة ودون تأخير.
والروتين هو مرادف للعادة والتقليد والنمطية، أي أداء المهام نفسها بشكل منتظم من قبل الأشخاص أنفسهم في الأوقات نفسها، واعتماد اللوائح الثابتة والأقدمية والقدرة على الأداء كأسس للإدارة، ومنهج للتعاطي بين الرؤساء والمرؤوسين، بعيداً عن التطوير أو التجديد، أو تبنّي الأفكار المبتكرة، والحلول غير النمطية.
كما عُرِّف الروتين الإداري في أيّة مؤسّسة أو دائرة بأنّه الحالة العملية الإجرائية التي تنفّذ من خلالها أهداف وواجبات ومسؤوليّات العمل بصورة بطيئة بسبب اعتمادها على أساليب وأنماط تفتقر إلى روح التجديد وعدم الإحساس بأهمية الوقت مع التقيّد الحرفي بنظم تعيق العمل وتؤخّره وتربكه وتطيل من أمد الانتظار بين يدي مسلسل التوقيعات التي يمكن اختصارها بوسائل تقنية حرصاً على السرعة والجودة والالتزام.
*الروتين في مواجهة التجديد!
والروتين بلا شك من الآفات التي أصابت مجتمعاتنا وعطّلتها عن مسيرة النهوض والتقدم وروح العصر الذي تلهث فيه المجتمعات نحو التجديد، ونحو تبنّي الجديد من الأفكار والمخترعات.
فالتشبث بالأفكار التقليدية، وبالأنماط الجامدة للإدارة، وباللوائح الشكليّة للعمل هو دافع إلى التراجع وربما الانهيار داخل الشركات والمؤسسات. لكن المؤسسات الناجحة بالفعل هي تلك المؤسسات القادرة على التغيير وإعادة صياغة خططها وأهدافها، والتي تترك لموظّفيها مساحة من التحرك والإبداع في إطار نفس الأهداف الموضوعة مسبقاً.
الصراع بين القديم والحديث، بين الجمود والتطور، هو إحدى سنن هذا الكون. وينسحب هذا الأمر على الشركات والمؤسسات والأفراد، لا سيما في مجتمعاتنا التي يعاني فيها بعض مؤسساتها من الترهل الإداري والنمطية والخوف من التجديد والابتكار وهو ما يُجمِله خبراء الإدارة في مصطلح الروتين.
لقد عشنا عصراً يفاخر فيه المدير أو الرئيس في مؤسسة ما بأنه يقود جيشاً من المرؤوسين لا يمكنهم التصرف دون قراراته أو إشاراته ومشوراته. وكثيراً ما ترددت على أسماعنا جملة "بناءً على توجيهات المدير..."، فإذا كان هذا هو الحال في المستويات الإدارية العليا، فما بالنا بالمستويات الإدارية الأدنى. ألا يستدعي ذلك تطوير الثقافة الإدارية وإطلاق حرية الإبداع وترقية المتميزين؟
*عقبات يصنعها الروتين
1- في الوقت الذي يتطلّب إنجاز معاملة معيّنة في إحدى الدوائر يوماً أو يومين نرى أنّ إنجازها يمتد ستة أشهر أو سنة بحجة إجراءات إدارية وقانونية.
2- ما يرتبط بالفرد يتمثل في الهروب الدائم من المسؤولية وتحملها، والتمسك بحرفية القوانين وبالتالي جمود وعدم مرونة الأداء.
3- ومن سلبيات الروتين، فيما يتعلق بالمؤسسة أو الشركة، التدرج النمطي في السلطة.
4- ما يرجع إلى انتفاء العناصر المعنوية كبواعث للاجتهاد والإبداع، وتحوّل العلاقة بين المؤسسة وموظفيها إلى علاقة ماديّة جافة، وهو ما يقتل بدوره دافعية التطوير والنهوض في نفوس الأفراد.
5- من معوّقات التطوير في المؤسسات والشركات الارتباط بالنمطيّة والروتين والتزام المرؤوسين بقوانين ولوائح وقواعد العمل الرسمية.
*أسباب الروتين
يعود السبب في حدوث الروتين الإداري (البيروقراطية المفرطة) إلى أمور عدة، منها:
1. عدم كفاءة المسؤول في أداء المهام.
2. عدم كفاءة الموظف أو المنتسب.
3. عدم وجود رقابة دوريّة لمتابعة إكمال المعاملات.
4. عدم وجود عقوبات إدارية رادعة للموظف المقصر في أغلب الأحيان.
5. عدم وجود سقف زمني لإكمال المعاملات.
6. الخلافات بكافة أنواعها: مذهبية - مناطقية -عرقية - سياسية...
7. عدم وجود متابعة من موقع أدنى من قبل الإدارات العامة والعليا.
8. المحاباة والمحسوبية يتدخلان في المصلحة العامة.
9. تفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.
10. سياسة التدوير والنقل وفق المصلحة الشخصية.
11. النكوص والتراخي في أداء الواجبات والمهام.
12. عدم تطوير المهارات والكفاءات على إدارة الوقت وإدارة الجودة الشاملة والعلاقات العامة وغيرها.
13. زيارات الجهات الرسمية تركز على الجانب الدعائي أكثر من الجانب التقويمي والتسويقي.
14. ندرة الزيارات الميدانية من قبل الإدارات العليا والوسطى للمنتسبين.
في حين نلاحظ أن الدول المتقدمة تعمل جاهدة على استثمار رأس المال البشري (استثمار الموارد البشرية) من خلال تمكين الأفراد قبل تكليفهم وتطويرهم قبل منحهم المراكز والمواقع الإدارية المهمة التي وجدت لتوفير الخدمة إلى الناس وليس وضع حواجز وعقبات روتينيّة قاتلة.
*خطوات لكسر الروتين
لمعالجة التفكير النمطي الذي يلقي بظلاله على الإدارة، سنقدم بعض الخطوات لكسر الروتين الإداري وبعث التغيير فيه:
1- بين الجمود والمرونة
إن التطوير الشامل يبدأ بتطوير التشريعات والقرارات التي تحكم عمل الجهاز الإداري داخل المؤسسة أو الشركة، فكثير من التعقيدات الروتينية التي تعطل العمل ناتج عن بعض مواد التشريعات المنظمة للعمل. فمن المهم إعادة صياغة كافة القوانين والأنظمة والقرارات التنفيذية الجامدة والتي غالباً ما تعود لفترات ماضية قد تصل لربع قرن أو خمسين عاماً، وأصبحت تحتاج إلى تعديل جذري.
فالتغيير يعني كسر الجمود وترك مساحة واسعة من المرونة تسمح للنظام بالكامل (أفراداً ومؤسسات)، بأخذ خطوات من التطوير والنجاح، والوصول إلى بناء تنظيمي يسمح للأفراد والمؤسسة أن يتحركوا نحو أكبر قدر من المرونة دون الإخلال أو التفريط.
2- الإدارة بالمشاركة
إننا بحاجة لتغيير الثقافة الإدارية السائدة بالأجهزة الحكومية والمؤسسات والشركات من القاعدة إلى القمة والتحول إلى الإدارة بالمشاركة والاقتناع والترقية للمتميزين والمبدعين، إذ نريد موظفاً مبدعاً ومسؤولاً قادراً على اتخاذ القرار وتحمل تبعاته.
فالشراكة في الإدارة بين الرؤساء والمرؤوسين تعني نظاماً مفتوحاً على المجتمع ترتبط فيه المؤسسة أو الشركة بالنسيج الاجتماعي وتتفاعل مع الناس، تتأثر وتؤثر فيهم، على عكس النظم الروتينية. والشراكة في الإدارة تُعنى بالسلوك الرسمي وغير الرسمي كأساس في التعامل داخل المؤسسة لأن الاثنين يصدران عن سلوك بشري واحد (فردي أو جماعي) وله أثره الواضح على العمل لإنجاح وتحقيق الهدف المطلوب وفقاً لقواعد ومبادئ العمل حتى ولو تعارضت مع الأهداف والرغبات الشخصية.
3- القيادة وكسر الروتين
للقيادة دور مهم في تحريك النظم الإدارية وكسر الجمود والروتين داخل المؤسسة أو الشركة عبر تنظيم شامل للجهاز الإداري داخل المؤسسة يضع في اعتباره الأهداف التي تسعى لتحقيقها استراتيجية الإصلاح الشامل والكفاءة كأساس للتقييم ووضع البرامج التنفيذية لذلك.
فإذا كان القائد في النظم والمؤسسات الروتينية يتولّى وظيفته بحكم المنصب والمركز الوظيفي الرسمي له وطبقاً لمبدأ التدرج في السلطة (الأقدمية)، بعيداً عما يتمتع به من سمات أو مهارات، فالإدارة في النظم المتطورة تعنى بتولي أصحاب الكفاءة للمواقع القيادية ليصبح الكفاءة والتميز أساسين للترقي والوصول للمناصب الإدارية العليا.
4- جودة العمل والتغيير
لا بدّ من تحسين نوعية الجودة، والعمل على تفعيل مفاهيم إدارة الوقت والعلاقات العامة التي لا بدّ أن توجد أو تستحدث في كل وزارة ودائرة والعلاقات العامة تسعى إلى إرضاء الناس وإكمال معاملاتهم.
*خطوات أخرى على طريق الحل
- توجد حاجة لدى المؤسسات الحكومية الخدمية والإنتاجية لتطوير كوادرها وتمكينهم من الاطلاع على المواضيع الحديثة في: إدارة الجودة الشاملة، إدارة الوقت، الإعلام والعلاقات العامة، الإدارة الحديثة، إدارة الصراعات والأزمات، وغيرها من المواضيع الحديثة التي تسعى إلى تقديم خدمات نوعية ونموذجية إلى المجتمع والدولة. إن موضوع استثمار رأس المال البشري هو الخطوة الأولى. ويرى المهتمّون ضرورة استحداث مراكز البحث والتطوير لملاكات المؤسسات الحكومية خير سبيل وهدف وغاية لتطوير وتحسين مهارات الموظف أو المنتسب ليكون موظفاً أو منتسباً نافعاً وناجحاً.
- إنّ مسألة الترقية وفق الدورات التدريبيّة والتطويريّة مهمة جداً بدلاً من وضع استمارات روتينية وكلاسيكية تعتمد على عنصر الزمن في ترقية الموظف أو المنتسب في حين أنّ أصحاب الكفاءات وذوي الخبرات يكون مصيرهم كحال الموظف أو المنتسب النكوص أو المترهّل أو غير المبالي بالمسؤولية. فإننا نستنتج أن ظاهرة الروتين الإداري سببها الموظف أو المنتسب وإدارته العامة والجهات الرقابية، الداخلية والخارجية، وليس مصطلح (الضوابط والتعليمات أو الصلاحيات الإدارية).
(*) مدير الجمعية اللبنانية للعلوم الإدارية.