قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن غنىً لا فقر بعده".
بهذا الحديث الشريف بين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم موقعية القرآن في عالم الوجود. وبالتأمل في هذه الرواية نعلم أن حقيقة القرآن تفوق الألفاظ والكلمات وتعلو على المفاهيم والكليات. إنها باختصار عين الغنى المطلق الذي لا فقر بعده أبداً.
في الأبحاث الماضية تبين لنا أن الطريق الوحيد للوصول إلى الله تعالى هو طريق العبودية الذي يتحقق في حياة الإنسان من خلال الامتثال التام لأوامر الله في كل أبعاد الحياة وشوؤنها.
وعلمنا أن الصدق في هذا الصراط يعني أن يقدّم العبدُ إرادة مولاه في كل شيء، ويعني أن يقدّم ما يقدمه سيده أيضاً. وإن ما يقدّمه لله لا يعود عليه بأي نفع لأنه الغني المتعال، وإنما لمصلحة تصيب العبد. ونحن إذا فكرنا في سر هذا التقديم وهذا التشديد من قبل الله سبحانه سنطلع على عمق المنهج السلوكي الذي ارتضاه الله لنا وأمرنا به.
فلنأخذ مثلاً سورة المزمل التي نزلت في بدايات الدعوة الإسلامية حيث الأمر فيها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بضرورة قراءة القرآن الكريم تحضيراً له للمسؤولية الكبرى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾.
هذا القول الثقيل والذي قد يكون متوجهاً إلى إعلان الدعوة يتطلب استعداداً وارتباطاً أقوى ولذلك جاءت الآية: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾.
والذي لا يصبر على العبادة لن يتمكن من تحمّل المسؤولية الكبرى وحمل الأمانة العظمى. وقد اختصت العبادة بالصلاة (صلاة الليل) وقراءة القرآن الكريم.
وفي الآية الأخيرة من سورة المزمل والتي نزلت بعد فترة الإعداد الأولى يرفع الله سبحانه عن المؤمنين الأوائل وجوب صلاة الليل. ولكن ماذا بالنسبة لقراءة القرآن؟
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ..﴾ إلى آخر الآية.
فمن الملاحظ بوضوح أن الأمر بقراءة القرآن قد تكرر وتأكد في جميع الحالات التي قد يعيشها الإنسان أو الظروف الصعبة التي يمر بها. وهذا يدل على عظمة هذه العبادة الإلهية التي أخرجها البعض من مرتبة العبادات الواجبة وجعلها من النوافل العادية التي تنحصر في دائرة ضيقة من الفضائل العملية!
حقاً، ألا يعتبر هذا الأمر هجراً واقعياً للقرآن؟!
إن ما ورد بشأنه أنه الثقل الأكبر يتحول إلى أمر عادي يوضع إلى جانب المستحبات- وهذا في أحسن الأحوال!!
أما الأمة الوسط فإنها التي تسير على هدي النبي الأكرم وأهل بيته المعصومين وتستن بسنّتهم المعصومة فترفع القرآن إلى مقامه الشامخ وترى التمسك به تكليفاً إلهياً. بل تعتبره واجباً أساسياً. وهو الذي يعطي للعبادات والتكاليف الأخرى قيمها الحقيقية عند الله تعالى.
وسر ذلك، بالإضافة إلى التأكيد الكبير الوارد في سنة المعصومين عليهم السلام، هو أن حقيقة القرآن تمثل جوهر المقام النهائي بكل مراتبه. فهو في عين وجوده الكمال المطلق اللامتناهي، وقد ظهر في عالم الدنيا بصورة الألفاظ والحروف. ولكنه في عالم الإله يمثّل التجلّي والمظهر الكامل لأسماء الله وصفاته كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الله تجلّى لخلقه بكتابه ولكن لا يبصرون".
فما يراه أهل الظاهر من القرآن ليس إلا الجمل العربية المنضودة ببلاغة تخلب الألباب. ولكن للقرآن كما ورد في الأحاديث الشريفة باطناً ولبطنه بطون، هي مراتبه الغيبية التي هي وراء اللفظ والكلمة: "إن للقرآن ظهراً وباطناً، ولبطنه بطن إلى سبعين بطناً".
وإن المشكلة تكمن في أننا نتصور هذا البطون والخفاء بصورة لفظية خفية، وذلك لأننا اعتدنا على المفاهيم والمحسوسات. وهكذا بدلاً من أن نرتفع إلى القرآن، أنزلناه إلى منازل عقولنا ومفاهيمنا.
أما القرآن فإنه مظهر الوجود بأكمله، وهو حقيقة كل كمال ممكن.
فلنتأمل في هذه الرواية المباركة والتي تصف حقيقة القرآن وظهوره يوم القيامة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جاء يوم الحساب قيل لقارئ القرآن إقرأ وأرق فلا يكون في الجنة من الدرجات إلا بعدد آيات القرآن الكريم".
فمن الثابت في محله أن الجنة ليست إلا ظهور الفيض الإلهي بحسب مراتب أهلها. وفيها الإنسان الكامل الذي بلغ الكمال المطلق بسيره المعنوي. وفي هذه الرواية أشير إلى جميع درجات الجنة ومراتبها وأنها مساوية لجميع القرآن. فالجنة العالية هي جنة الله: ﴿فادخلي جنّتي﴾ وهي مقام الإنسان الكامل الذي هو حقيقته القرآن الناطق كما ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما وصفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: "كان خلقه القرآن".
فهذا الكتاب الإلهي هو المأدبة الإلهية كما جاء: القرآن مأدبة الله إلى خلقه التي جمعت كل أصناف الكمالات في أعلى درجاتها، ومن أراد السير إلى الله فعليه أن يسير بالقرآن لأنه جمع كل المراتب الممكنة، وهو الهادي لكل ضال من أسفل سافلين إلى أعلى عليين ومن رام وراء ذلك فقد هلك.
ونحن قد ذكرنا هذه المقدمة ليتضح المقصود ونتعرف إلى المطلوب من قبل أن نضل أو نخزى.
فالمتأمل في السنة المجيدة يدرك أن موقع القرآن بالنسبة لجميع الأعمال كالشمس بالنسبة لسائر النجوم، وكالثقل الأكبر بالنسبة للأصغر. والسالك في طريق العبودية الحقة لا يمر على هذا معرضاً، بل يتوقف ملياً متعبداً أولاً، ومتسائلاً ثانياً عن سر هذا التعظيم. فيدرك بعناية الله المتعال، أن القرآن الكريم يمثل في جوهره حقيقة الكمال اللامتناهي ويعلم أن التمسك به هو التعبير عن حقيقة العبودية لله. ثم يبحث عن كيفية التمسك بهذا الحبل الممدود من السماء إلى الأرض والسبب الأوحد للنجاة فيأتيه الجواب من ولي الله وروحه سيد العرفاء الشامخين الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، فالمطلوب من قراءة القرآن هو انتقاش صورته في القلوب، وتأثير أوامره ونواهيه ودعواته. وهذا المطلوب لن يحصل إلا إذا لحظت آداب القراءة فيه..." (الآداب المعنوية...).
إن كل تكليف من التكاليف الإلهية له ظاهر وباطن. وبدون مراعاة أحكام الظاهر وآداب الباطن لا يمكن نيل فوائده النورانية. فأحكام التمسك بالقرآن في مقام الظاهر هي القراءة والترتيل والطهارة واستقبال القبلة و... وآدابه المعنوية كثيرة نذكر منها:
1- التعظيم: وهو التوجه إلى القرآن بكونه كلام الله سبحانه الذي فاق كل عظيم وكان أكبر من أن يوصف.
2- إزالة الحجب بين القارئ والقرآن.
3- فهم مقاصده.
4- حضور القلب.
5- التفكر والتدبر.
6- التطبيق.
7- الإخلاص.
8- التمسك بالثقل الثاني وهم العترة الشريفة الطاهرة.
وبإذن الله تعالى سنشرح في المقال الآتي كيفية رعاية هذه الآداب وتفاصيلها العملية لكي يتسنى لكل سالك سبيل العمل والاستفادة إن شاء الله.
وهكذا نخلص إلى النقاط التالية:
1- العبودية هي السبيل الوحيد للوصول إلى الغاية.
2- العبودية لا تتحقق إلا برعاية التكليف وأدائه.
3- أعظم التكاليف الإلهية التمسك بالثقلين: القرآن والعترة.
4- لا يحصل التمسك بالقرآن إلا من خلال رعاية آدابه المعنوية.
ونختم الكلام بحديث للإمام الخميني قدس سره هو كاف لكل من أبصر واعتبر:
"وهذا الكتاب الشريف هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس وفي الآداب والسنن الإلهية، وهو أعظم وسيلة للربط بين المخلوق والخالق". (الآداب المعنوية).