إنَّ حاجة الإنسان لفرد مثله كانت ولا تزال المفِصَل لتمييز معادن الناس فكم من محتاج يكتم سره في جوفه ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف﴾ ولا يكل أمره سوى لربه للأنفة والحمية الموجودة والمتجذرة في نفسه وكم من أشخاص نصادفهم مراراً يبذلون ماء وجوههم بكل بساطة لتحقيق أدنى المصالح والرغبات ضاربين بقيمهم وشخصياتهم وحل المستنقعات لذا كان لدينا الكثير من الروايات عن أهل بيت العصمة التي تحثُّ على عدم الشكوى وطلب الحاجات سوى من الله، ففي حديث للإمام الباقر عليه السلام يستشهد فيه ببيت من الشعر لحاتم الطائي قال: اليأس ممّا في أيدي الناس عز المؤمن في دينه، أو ما سمعت قول حاتم:
إذا ما عزمت اليأس ألفيته الغنى |
إذا عرفته النفس، والطمع الفقر |
* أين الخير؟
عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام قال: رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس، ومن لم يرج الناس في شيء ورد أمره إلى الله عزَّ وجلَّ في جميع أموره استجاب الله عزَّ وجلَّ له في كل شيء.
إنَّ هذا الحديث يقطع الطريق عزيزي القارئ على من يتذرع قائلاً بأنَّ الضرورة تجعلك تحتاج إلى الناس بل هو قلة الإيمان بالله المبتلى بها أكثر البشر، وإلا كيف تفسر قول الإمام بأنه الخير كله في عدم النظر إلى ما في أيدي الناس فمن وكل أمره إلى الله لا يكله الله إلى غيره بشرط الصدق والإخلاص بقدرة الله على جعله غنياً عما في أيدي الناس فالدعاء لله بطلب الرزق يستدعي اليقين بقدرة المدعو على تلبية الحاجات.
* بقاء التواصل مع الناس
إنَّ معنى الاستغناء عن الناس لا يستدعي قطع الصلة بهم، بل إنهم بحاجة لحسن خلقك وبشاشتك لتبقى على صلة طيبة واجتماعية معهم. ففي حديث للأمير عليه السلام يقول: ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك.
فالحديث يوضح بأن افتقارك إلى الناس بحسن المعاشرة وسهولة العريكة لا يتنافى مع استغنائك عنهم وعمّا في أيديهم، فحسن العشرة هي عامل ارتباطك بهم على أساس علاقة اجتماعية ودية ذات طابع انسجامي، لتعوضهم عما قد يشعرونه من خلال استغنائك التام عنهم.
* شرف وعز
إنَّ عزَّ المؤمن هو استغناؤه عن الناس ففي الحديث "إذا أردت عزاً بلا عشيرة وملكاً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله"، فإن الحاجة إلى الناس إذا اقترنت بذل فهي بحد ذاتها معصية ونقول عطفاً على ما قدمنا أنه إن كان عز المؤمن هو استغناؤه عن الناس فإن شرفه قيام الليل. فعن الصادق عليه السلام قال: شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس. مما يوضح أهمية صلاة الليل وأهمية اقترانها بشرف المؤمن الذي لا ينفصل عن عزه الذي هو استغناؤه عن الناس.