يقول الإمام الخميني قدس سره: ".. فمفتاح خزينة الأعمال، وباب أبواب جميع السعادات هو حضور القلب، فيه يُفتح باب السعادة للإنسان ومن دونه تسقط جميع العبادات من درجة الاعتبار".
فالخطوة الأولى نحو المعارف المعنوية وإدراك حقيقة الآداب الباطنية هي الاقتناع بمثل هذه المعارف وإدراك أنها الرأسمال الوحيد للوصول إلى النتائج الواقعي للعبادات في الآخرة.
نحن إذا تفكرنا قليلاً في الأحاديث الواردة بشان ثواب الأعمال في الآخرة، ندرك أن لكل عمل يقوم به الإنسان تمثلاً عينياً في العالم الآخر، وأن هذه العبادات في مقامها الظاهري ليست إلا أموراً اعتبارية، كالصلاة والصوم والحج وغيرها، فهي بظاهرها أمور اعتبارية أمر بها الشرع الأنور. وأن الاعتباري لا يمكن أن يكون علة أو سبباً لأمر حقيقي تكويني في الدنيا أو الآخرة، نعلم عندئذ أنه لا بد من وجود حقيقة أخرى لكل عبادة في الدنيا لا تُنال بالاقتصار على الظاهر فقط. وأن حضور القلب شرط لنيل باطن العبادة في الدنيا، وثوابها، أي تحققها العيني النوراني في الآخرة.
ثم يقول الإمام قدس سره: ".. فطريق تحصيل حضور القلب أن ترفع أولاً موانع حضور القلب، وتنحّي الأشواك عن طريق السلوك من جذورها. وبعد رفع الموانع تقدم على تحصيل حضور القلب".
وقد ذكرنا في المقال السابق المانع الأول الذي يقف سداً منيعاً أمام تحصيل حضور القلب وهو عدم الاقتناع بضرورته إما بسبب العلم أو التجربة. وها نحن هنا نذكر بقية الموانع بإذن الله تعالى:
يقول الإمام قدس سره: "أما موانع حضور القلب في العبادات فهي تشتت الخواطر وكثرة الواردات القلبية"، وهذا ما يسمى بالخيالات الباطلة أو الفاسدة والتي تنشأ من عدة أسباب. ويمكننا أن نضيف إلى هذا المانع سبباً آخر هو كثرة الانشغالات العقلية والاقتصار عليها، فإن الحضور في محضر الله في الصلاة من شؤون القلب، والمصلي بعد أداء حق الظاهر يبقى له مقامان: مقام الخيال (أو المثال) ومقام العقل لكي يدخل إلى مقام القلب. ولكلٍ من المقامين السابقين حالات قد تؤدي إلى منع القلب من الحضور أثناء الصلاة، فإذا جئنا إلى المانع الأول وهو تشتت الخواطر، يمكن القول إنه يحصل من ناحيتين أساسيتين هما: طرق الحواس وحب الدنيا.
يقول الإمام قدس سره:
".. وهذه ربما تحصل من الأمور الخارجية ومن طرق الحواس الظاهرية. مثل أن يسمع السمع في حال العبادة شيئاً يتعلق الضمير به، ويكون مبدأً للتخيلات والتفكرات الباطنية وتتصرف فيه الواهمة والمتصرفة فيطير الخيال من غصن إلى غصن". (الآداب).
فكثرة النظر- وإن كانت إلى الأمور المحللة- تؤدي إلى كثرة انطباع الصور في الخيال مما يزيد من احتمال حدوث التشتت فيه. ولذلك، فإن أهل الله يبتعدون قدر الإمكان عن الأسواق ومشاهدة الزخارف والزينة وأمثالها.
"الأمر الثاني الموجب لتشتت الخاطر هو حب الدنيا وتعلق الخاطر بالحيثيات الدنيوية التي هي رأس الخطايا وأم الأمراض الباطنية".
فما دام المصلي مشغولاً في الدنيا مهتماً بها قد تعلق قلبه بتحصيلها فإن هذا سيورثه حباً لها، وهذا الحب هو الذي يكون منشأ للخيالات المانعة من تحصيل حضور القلب، "فمن أحب شيئاً أكثر ذكره"، وعندما يقف هذا المصلي بين يدي الله، ورغم أنه يروم ذكره تعالى: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾. إلا أنه وبمجرد أن يكبر تكبيرة الافتتاح حتى تبدأ تلك الخواطر الناشئة من دنياه المحبوبة بالانبعاث دون أن تترك له مجالاً لتذوق حلاوة المناجاة والانقطاع إلى الله تعالى.
يقول الإمام قدس سره:
".. وما دام القلب متعلقاً بها، ومنغمساً في حبها، فالطريق لإصلاحه مسدود، وباب جميع السعادات في وجه الإنسان مغلق.. وهذا التعلق هو شوك طريق أهل السلوك ومنبع المصيبات". (الآداب).
ويذكر الإمام أنه قد يكون هناك بعض الأمور الباطنية التي تؤدي إلى تشتت الخاطر وتمنع من حضور القلب، إلا أن عمدة المنشأ له على نحو كلي أمران إليهما ترجع عمدة الأمور الأخرى:
الأول: إن طائر الخيال هو بنفسه فرّار، يتعلق دائماً كطائر من غصن إلى غصن، ويطير من افريز إلى افريز، وهذا ليس مرتبطاً بحب الدنيا والتوجه إلى الأمور الدنيّة، بل كون الخيال فراراً مصيبة يبتلى بها الناس حتى التاركين للدنيا.
والأمر الثاني هو حب الدنيا والتعلق بها. (الآداب).
وإذا نظرنا إلى المانع الآخر، غير الخيالات، وهو كثرة الانشغالات العقلية، نجده يقف سداً مانعاً أمام تحصيل حضور القلب، وهو يحدث عادة عند أهل العلم الذين يصب همهم تحصيل العلوم العقلية وجمع الأدلة والبراهين. وبدلاً من أن تكون هذه العلوم العقلية طريقاً لحياة القلب تتحول إلى حجاب مانع، ويفرح صاحبها بما جمع، فهي مراده ولا شيء سواها. والحل بكل بساطة لمثل هذا المرض هو التفكر في الروايات الشريفة والحالات القلبية لأئمة الدين الذين هم العقول التامة، فإذا كان المتعلم يتخذهم وسيلة إلى الله وقدوة حقيقية، فكيف يفسّر حالاتهم مع الله ومناجاتهم مع الحق عز وجل. إن الانشغال بالعلوم العقلية والاقتصار عليها هو حرمان لمرتبة أخرى وتضييع لسر وجودنا في هذا العالم. قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون﴾.
ويذكر الإمام قدس سره أن العلماء ذكروا علاجاً قد يكون مؤثراً، إلا أنه لا يقضي على هذا المانع (تشتت الخيال) كلياً.. "ولكننا بصدد العلاج القطعي ونتطلب السبب الحقيقي للقلع..".
ومما مر نخلص إلى النتائج التالية:
1- إن حضور القلب شرط لنيل باطن العبادة الذي يكون علة لتنور باطنه.
2- لتحصيل حضور القلب لا بد من إزالة الموانع أولاً.
3- هذه الموانع هي: تشتت الخيال والانشغال العقلي.
4- منشأ تشتت الخواطر أمران أساسيان: الانشغالات الحسية وحب الدنيا.
5- منشأ الانشغالات العقلية هو الاقتصار على البراهين والأدلة وجعل العلم هدفاً.
6- ذكر العلماء طريقاً لعلاج مرض تشتت الخيال إلا أنه لا يقلع المرض كلياً.
7- وسوف نذكر في المقال المقبل علاج هذا المرض بإذن الله تعالى.