آية الله مشكيني
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (لقمان: 8- 9).
في الآيات السابقة توعد الباري عزَّ وجلَّ الذين يشترون لهو الحديث بالعذاب المهين في جهنم. وفي هاتين الآيتين الكريمتين وعد إلهي للمؤمنين الأبرار بأن لهم جنات النعيم. وهذا الوعد حق وحتمي، وبقاؤهم في الجنان ليس له نهاية بل هو أبدي وخالد، تماماً كما أن أحد الأسماء والجلالية لله تعالى أنه أبدي، وفي هذا السياق ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: خلقتم للبقاء ولا للفناء.
* ملاك الثواب والعقاب
هنا قد يطرح سؤال: ما هو الملاك في دخول المؤمنين الجنة والكافرين النار، هل هو الإيمان والكفر أم العمل الصالح والعمل الطالح؟ وبتعبير آخر: هل الجنة هي جزاء الإيمان، أم العمل الصالح، أم كلاهما؟ وهل جهنم هي جزاء الكفر أم جزاء الذنوب والمعاصي البدنية؟
ما يستفاد من الآيات والروايات الشريفة أن الجنة هي جزاء الإيمان، فصاحب الإيمان التام والاعتقاد الصحيح لا بد أن يكون جزاؤه الجنة. وهذا لا إشكال فيه إن كان مؤدياً للطاعات مجتنباً للمعاصي ومراعياً للأحكام الإلهية المقدسة طبقاً للآية الكريمة ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم﴾ نعم إذا لم تكن لديه أعمال صالحة فلا بد أن يخضع لبعض أنواع العذاب ولكن في النهاية سيكون مآله إلى الجنة.
أما الكفار والمشركون فإن مصيرهم إلى جهنم والعذاب المهين بسبب كفرهم وشركهم، وهم فيها على الدوام سواء كانت لديهم أعمال صالحة أم لم تكن. والكافر هو الذي ينكر وجود الله تعالى أو اليوم الآخر. وكذلك كل من ينكر أصلاً من أصول الدين يعتبر كافراً ومصيره الخلود في جهنم.
ولمزيد من التوضيح نقول: ينقسم الناس إلى أربعة أقسام:
1- المؤمن الذي لديه عمل صالح.
2- المؤمن الذي ليس لديه عمل صالح.
3- الكافر الذي ليس لديه عمل صالح.
4- الكافر الذي لديه عمل صالح.
* جزاء الإيمان مع العمل
القسم الأول وهم المؤمنون حقاً، الذين كمل إيمانهم ويعتقدون بأصول الدين والمذهب كلها عقلاً وقلباً وجعلوا من الأحكام الإلهية منهاجاً لحياتهم يقضونها في الصلاة والصوم والزكاة والجهاد والإنفاق وسائر العبادات وأعمال البر... الخ، وبالطبع دون إهمال الاحتياجات الضرورية للحياة المادية. وهؤلاء جزاؤهم جنات النعيم والدرجات الرفيعة عند الله عزَّ وجلَّ.
* جزاء الإيمان دون عمل
القسم الثاني وهم الذين لهم اعتقاد صحيح بأصول الدين لكن دون أن تكون لديهم أعمال صالحة. هؤلاء وإن كانوا سيدخلون الجنة في النهاية، لأن الله أقسم أن المؤمن جزاؤه الجنة، لكنهم سوف يعذبون قبل ذلك مقابل الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها والفرائض الإلهية التي أهملوها، ولكن أي عذاب شديد هو؟! وكم تطول مدة هذا العذاب؟! فذلك علمه إلى الله.
نعم، ليلتفت المؤمنون وليحذروا من الذنوب والمعاصي. لأن هذه الأعمال السيئة سوف تحرمهم من النعيم لفترة غير معلومة، هذا فضلاً عن العذاب في عالم البرزخ والأهوال الشديدة التي يواجهونها في المحشر، وإن لم تكن هذه البلاءات كافية للتطهير فإن العذاب الشديد ينتظرهم في جهنم والأجل غير معلوم.
وأخطر من ذلك كله أن تؤدي المعاصي والذنوب التي يرتكبها الإنسان المؤمن به إلى الكفر والجحود والتكذيب بآيات الله عزَّ وجلَّ. وبالتالي يكون جزاؤه الخلود في جهنم. قال تعالى: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون﴾. وذلك لأن قلب الإنسان يصاب بالزيغ والرين على أثر الذنوب، والاستمرار في ذلك دون توبة يؤدي بالنتيجة إلى خروج الإيمان كلياً من القلب.
حسناً، إذا كانت الجنة جزاء الإيمان فما هي علاقة العمل الصالح بالجنة؟
الجواب: المؤمن ذو العمل الصالح يدخل الجنة مباشرة دون عذاب، ثم أن عمله كلما كان أفضل، فإن درجته ومقامه سيكون أرفع وأعلى، وبالتالي تكون النعم الإلهية أفضل وأوفر، والمؤمن الذي ليس لديه عمل صالح له نصيب من العذاب أولاً ويدخل الجنة في أدنى درجاتها ثانياً.
* جزاء الكفر دون عمل
الكافر الذي لا يؤمن بالله تعالى، أو ليس لديه اعتقاد صحيح وتام بأصول الدين كافة، أو الذي أنكر ضرورة من ضروريات الدين، ولم يكن لديه عمل صالح في الدنيا، بل كانت صحيفة أعماله مليئة بالسيئات والمعاصي، هذا الكافر جزاؤه جهنم دون أدنى ريب وهو خالد في العذاب.
* جزاء الكفر مع العمل
والكلام حقيقة وواقعاً هنا، أي أن الكافر الذي لا إيمان له وكانت عقيدته ضالة وفاسدة، لكنه قام بأعماله خيّرة، وأدى خدمات جليلة للبشرية، أو دافع عن المظلومين والمستضعفين وقدّم التضحيات في سبيلهم، هذا الكافر ما هو حاله عند الله عزَّ وجلَّ؟
يقول بعض العلماء: الكفار ذوو الأعمال الصالحة مصيرهم في النهاية إلى جهنم حتماً، لكن من الممكن أن الله سبحانه يخفف عنهم العذاب نسبة إلى سائر الكفار.
والإشكال الأساسي في الموضوع هو أن مثل هؤلاء، كالذين اخترعوا الكهرباء والآلات الحديثة (وسائل الاتصال مثلاً) وسائر الاختراعات التي تحقق الرفاهية للبشر، ألا يعتبر دخولهم إلى جهنم منافياً للعدالة الإلهية؟ والله تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره﴾ أليس من الظلم أن أمثال هؤلاء المخترعين الكبار لا يدخلون الجنة يوم القيامة؟ وفي الجواب نقول:
أولاً: في الآية مورد الاستدلال، كلمة (يره) تفيد نفس العمل وهذا لا ربط له بالجزاء، القرآن الكريم لم يذكر جزاء الأعمال الصالحة بمعزلٍ عن الإيمان مطلقاً، وإنما كان دائماً يقرنها بالإيمان.
ثانياً: إن عدم دخولهم إلى الجنة يكون منافياً للعدل الإلهي فيما لو وعدوا بالجزاء على أعمالهم الصالحة التي قاموا بها، والله تعالى لم يعد بذلك.
ثالثاً: يصرح القرآن الكريم بأن الأعمال الصالحة من الكافر لا تجدي نفعاً، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور: 39). فأعمال الكفار كالسراب الذي يخيَّل للإنسان أن فيه الخير الكثير ولكنه في الواقع ليس كذلك. وفي الآية 18 من سور إبراهيم يقول تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيد﴾.
رابعاً: إن هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى أصلاً، إنما يقومون بهذه الاختراعات والابتكارات العظيمة لكسب رضا الناس والسيطرة على قلوبهم، فلا معنى لطلب الأجر من الله إذاً. في الواقع إن كان لهم أجر قلا بد أن يطلبوه من الناس وليس من الله. والكثير منهم قد أعطي أجره في الدنيا من حسن الثناء عليه وتعظيمه وتوقيره، أما الجنة فلها شرائط خاصة، والأعمال يجب أن تكون خالصة لوجه الله سبحانه، وكل عمل فيه شائبة شرك أو رياء فإنه غير مقبول عند الله البتة.
نعم من الممكن أن نقول أن الله تعالى ربما يخفف عنهم العذاب بلطفه ورحمته نسبة إلى سائر الكفار.
* الوعد والوعيد
﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
في الآيات السابقة تحدثنا عن نوعين من الوعد:
1- الوعد بالجنة للمؤمنين العاملين للصالحات.
2- الوعد بالعذاب المهين للذين يشترون لهو الحديث.
وبناء عليه، إذا كان جملة (وعد الله حقاً) ناظرة إلى كلا الوعدين، يكون المعنى عندئذ أن الوعد بالجنة والعذاب لا يقبل التخلف وكلاهما واقع لا محالة.
في الاصطلاح القرآني والروائي، يطلق على وعده تعالى بالثواب على الأعمال الصالحة "الوعد"، وعلى وعده بالعقاب وعلى الأعمال السيئة "الوعيد"، فالوعد هو للثواب والجزاء الحسن والوعيد هو للعقاب وجزاء السوء.
وعليه، فلو أن الله تعالى يوم القيامة أخلف بالوعود التي قطعها، فهل يعتبر هذا منافياً للعدالة أم لا؟ نقول:
إذا كان الموضوع هو "الوعد" أي الثواب، حيث وعد الله تعالى المؤمنين الصالحين بالجنة، فإن عدم تحقق هذا الوعد يعتبر من الناحية العقلية خلافاً للعدل، والله تعالى لا يفعل ذلك مطلقاً، لأن عدم الوفاء بالوعد إما أن يكون لعجز أو لبخل، وكلاهما محال في حقه تعالى. ولذلك نجد في موارد عديدة من القرآن أن الله تعالى (لا يخلف الميعاد)، والمقصود هو وعده بالثواب غير قابل للخلف.
* الخلف بالوعد من الناحية الفقهية
طرح الفقهاء هذه المسألة منذ قديم الزمان، وهي أن الإنسان إذا أعطي وعداً فهل يجوز له أن يخلف بوعده شرعاً أم لا؟
أفتى الأقدمون أن الخلف بالوعد هو خلاف الأخلاق الكريمة، ولكنه ليس حراماً فإذا أعطى شخص وعداً بأنه يحضر في الساعة الفلانية إلى المكان المعين ولكنه لم يحضر فعمله هذا خلاف الأخلاق ولكنه لم يرتكب حراماً، ولكن لو راجعنا الروايات المتعلقة في هذه المسألة فإننا نجد فيها دلالة على الحرمة، يعني كما أن الكذب حرام، الزنا حرام، كذلك الخلف بالوعد حرام أيضاً.
ما في مورد "الوعيد" يعني العقاب، فهل يمكن للباري عزَّ وجلَّ أن يخلف بوعيده أم لا؟ لا مانع لدى العقل من ذلك. لأن الخلف هنا لا يكون صادراً عن العجز أو البخل، بل يمكن إرجاعه إلى العفو والمغفرة، سواء كان ذلك بالنسبة لأصحاب الذنوب الكبيرة أم كان بالنسبة للكفار والمشركين. لقد وعد الله تعالى الكافر بأن مصيره إلى النار، وأصحاب الكبائر بالعقاب الشديد، ولكن يوم القيامة إذا لم يفِ بوعده هذا فلا إشكال من جهة العقل.