مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قراءة في كتاب: التوازن في الإسلام

سماحة الشيخ محمد علي التسخيري

هذا الكتاب هو عبارة عن عرض وبيان الأصناف التوازن القائمة في هذا العالم، سواءً على الصعيد التكويني أو على الصعيد التشريعي.
وهو مؤلف من مبحثين، يتألف المبحث الأول من قسمين، يعرض القسم الأول منه للتوازن في التصور الإسلامي عن الواقع، ويعرض القسم الثاني للتوازن في تعامل المسلم مع الواقع.
أما المبحث الثاني، فيبحث في صور التوازن في النظم الإنسانية، كالنظام التربوي والجنائي والاقتصادي والعبادي.

كتاب في غاية الأهمية، من حيث الموضوع والطرح، واقع في 179 صفحة من القطع الوسط، من تأليف سماحة العلامة الشيخ محمد علي التسخيري، صادر عن معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي.
ابتدأ المؤلف- كما أشرنا سابقاً- بالكلام عن التصور الإسلامي المتوازن عن الواقع، فعرض للكلام عن الكليات الرئيسية له ومنها:

1- البناء التكويني المتوازن:

وفي هذا الإطار عرض المؤلف لتأكيدات القرآن على التقدير الدقيق والتنظيم الشامل، وعلى بعض صور التوازن والتقدير في الكون ومصاديقه.. فعرض في المجال الأول للآيات التي تشير إلى التقدير الدقيق والتنظيم الشامل بشكل عام من قبيل ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا - الفرقان - الآية - 2  و ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى - الأعلى - الآية - 3  و ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر.

ثم عرض بعد ذلك للآيات الحاكية عن مصاديق هذا التوازن والتقدير من قبيل:  وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - الرحمن - الآية - 7  و﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ - المرسلات - الآية - 22  و﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - يس - الآية - 38
بعد ذلك، عرض للاكتشافات العلمية التي كشفت أنماطاً كثيرة من التوازن الحاكم لهذا الوجود.

2- التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:
فالله سبحانه هو المطلق الذي لديه كل صفات الكمال المطلقة وغير المحددة بحدّ، ومنها قدرته المطلقة على فعل ما يشاء وحكم ما يريد. ولا يقاس هنا إطلاق المشيئة الإلهية على إطلاق المشيئة الإنسانية، التي إذا ما تمكن منها الإنسان أشر وبطر وسلب وقتل ودمر وعاث في الأرض فساداً. إذ أن المشيئة المطلقة عندما تتجاوز الساحة الإمكانية تنقلب إلى ضد هذه الأمور، حيث يحكم هذه المشيئة الكمال وا لجلال الإلهيين اللذين لا يقترب الظلم والجور من ساحتهما.

ومن هنا "فقد شاء العدل الإلهي والحكمة الإلهية أن تكون القوانين الكونية ثابتة، وأخبر الإنسان بذلك ليطمئن قلبه، فجاءت الآيات القرآنية التالية موضحة هذه الحقيقة".
 ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ  (يس/40).
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا  (الأحزاب/62).

3- التوازن بين مجال الإرادة الإلهية المطلقة ومجال الإرادة الإنسانية المحدودة:

فالإرادة الإلهية مطلقة في مختلف ا لمجالات، لن تحد بحد، ولن يقف في قبالها شيء، "لكنها بلطفها منحت الإنسان حريته وإرادته في ما يعمل.. وأعطته القدرة على أن يريد وأن يحقق ما يريد، وهي تمده في كل آنٍ بهذه القدرة... ليتكامل وليصعد سلم الرقي المعنوي بنفسه".

4- التوازن بين الرحمة الإلهية والعقوبة الشديدة:

هنا توقف المؤلف عند ثلاثة مجموعات من الآيات الشريفة، بعضها يتناول الرحمة الإلهية الواسعة، وبعضها الآخر يتناول العقا الإلهي الشديد وثالثة تجمع بينهما، في خطوة منه لتبيان التوازن بينهما، والذي يترك في النفس الإنسانية خوفاً ورجاءً مؤثرين في دفع الإنسان نحو الهدف.

5- التوازن بين صورة الدنيا وصورة الآخرة:

تحت هذا العنوان أشار المؤلف إلى ميزة هامة يمتاز بها الإسلام، عن غيره من الديانات، إلا وهي امتلاكه نظرة محددة واضحة محكمة الأساس عن الحياة الإنسانية. وأنها تتكون من شوط قصير يسميه (الدنيا) وشوط طويل خالد يسميه (الآخرة).

فقد حدد الإسلام علاقة كل من الدنيا والآخرة ببعضها، فرأى أنهما مرتبطان ارتباطاً تاماً ينعكس فيه تأثير الأولى على الثانية انعكاساً محدد المعالم ﴿وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً.

كما بين الإسلام صفات كل من الدنيا والآخرة. فالدنيا محدودة زمانياً ومادياً، وقليلة المتاع، ومزينة للشهوات، وباعثة للغرور والطغيان واللهو اللعب والتعب والخوف والرجاء ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور.
وعلى عكس المحدودية الدنيوية يمتلك الشوط الأخروي صفات أوسع بكثير، بحيث لا تقبل القياس، بل تصل إلى حد الخلود بإرادة الله تعالى.

فعالم الآخرة عالم الجزاء والخلود في النعيم أو في النعيم أو في الجحيم وعالم انكشاف الحقائق ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ والإذعان لخالق الخلائق أجمعين، والتسليم المطلق له، وهو يوم الفصل وما هو بالهزل، وهو عالم تتجسد فيه الأعمال، ويكون التأثير فيه للأمور المعنوية أكثر منه للمحسوسة، حيث الرضوان الإلهي أعظم نعمة، والغضب الإلهي والبعد عن الله أشد عذاباً من النار وعذابها.

6- التوازن بين طرق الخير وطرق الشر:

حيث جعل الله سبحانه للإنسان طريقين (طريق الخير وطريق الشر) وبيَّنهما له، وجعل له الإرادة الحرة ليختار من بينهما الطريق الأصوب والأرشد، وهذا التوازن بين طرق الخير وطرق الشر هو الذي يفتح الطريق للإنسان كي يسير في سبيل التكامل، وتنفتح لديه الطاقات الكامنة في فطرته.

7- التوازن بين هدف الخلقة الإنسانية والإمكانات الممنوحة:

فبعد أن كان الهدف من الخلقة الإنسانية متمثلاً بتحقيق العبودية لله عزّ وجلّ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - الذاريات - الآية - 56  والسير فيها للوصول إلى أرقى مراتب الكمال، وبعد أن كان الوصول إلى هذا الهدف النبيل يستلزم طي مسافات طويلة، فقد زوّد الله سبحانه بلطفه ورحمته الواسعة الإنسان بوسائل وإمكانيات هامة تتناسب وعلو الهدف الذي يسعى للوصول إليه، وتساعده تمام المساعدة في بلوغه.

أما عن هذا التناسب القائم بين الأهداف العليا والإمكانات التي زود بها الإنسان، فقد عرضه المؤلف من خلال عرضه لأنواع الهداية أولاً ومن ثم لبيان كيفية تناسب عمل هذه الأنواع في سبيل إيصال الإنسان إلى الهدف.

فالهدايات المتواجدة في الإنسان تنقسم إلى قسمين: تكوينية، وتتفرع عنها الهداية الغريزية الفطرية التي تنبع من فطرة كل إنسان وتكوينه وترتبط بذاته وأصالته وتطبع سلوكه بطابعها. وعقلية، وهي الطاقة التي يمتاز بها الإنسان عن غيره من الحيوانات، فيسيطر بها على غرائزه، ويحد من تأثيراتها المفرطة عليه، ويمشي في ظلها في خط التكامل الذي لم تمشِ فيه الحيوانات الأخرى، وتشريعية: ونعني بها ما يحمله الوحي إلى البشرية من تشريعات تنير لها طريق كمالها وتهديها إلى الصراط المستقيم.

بعد ذلك عرض المؤلف للكلام عن التناسق في تأثير الهدايات بأنواعها. حيث أن الغرائز تحتاج دائماً إلى توجيهات العقل وتسديده، وكذلك العقل يحتاج إلى من ينميه ويصدر له الأوامر ويوجهه.

يقول المؤلف في هذا المجال: "فالنعمة الكبرى التي تقوم بمهمة صمام الأمان لعمل الغرائز وتنظيمها هي العقل. ولكن لما كان العقل محتاجاً أشد الحاجة إلى من ينميه أولاً، ويخطط له ويصدر له الأوامر، وبالتالي يوجهه بعمله الواسع إلى مواقع التنفيذ أو الأحجام أو غير ذلك، وعلى أساس من علم واسع بالكون والنفس وعلاقاتهما ومصالحهما، فإن الدور هنا يتهيأ للهداية الإيحائية أو الهداية التشريعية، وهكذا، فقد يكون الوحي والإلهام المرشدين اللذين يقومان بلطفه تعالى بتلك الوظائف".
تحت هذا العنوان، عرض المؤلف لمصادر المعرفة التي يثبتها القرآن وهي: الحس والعقل والوحي. فرأى أن القرآن أثبت سبلاً للمعرفة بيّنها للإنسان وكان أولها السبل الحسية (السمع والبصر) وكان ثانيها العقل، الذي لديه القدرة على تجريد الأمور،

 وحيث أن العقل قد يبتلى بأمور تحرفه عن النظر الدقيق، فقد جاء الوحي الإلهي كمصدر أساسي للمعرفة الإنسانية، لا يحتمل فيه أي خلل أو اشتباه، أو عدم وضوح للحقيقة. قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - الجاثية - الآية - 18
 

9- التوازن في العوام المحركة للتاريخ الإنساني والإرادة الإنسانية:
أثناء بحثه عن العوامل المحركة للتاريخ، توقف المؤلف عند التصورات التي طرحت في الإجابة عن هذه العوامل، وهذه تتمثل ب-:
1- نظرية العامل الواحد.
2- نظرية العوامل المتعددة.
3- رف تصور نظام علّي مترابط في المجال الاجتماعي والتأكيد على مجموع من الصدف والاعتبارات، لا غير.
ويكاد اتفاق المفكرين- إلا من شذ- ينعقد على رفض التصور الثالث.

أما التصور الأول- وهو نظريات العامل الواحد- فالمقصود به: تلك النظريات التي تبني الحركة التاريخية الاجتماعية على أساس من عامل واحد، يكون هو محورها والمكيّف لظواهرها المختلفة، وتعطي بعض العوامل الأخرى دوراً ثانوياً، يصغر أحياناً، فلا يكون معه إلا وسيلة ينفذ من خلالها ذلك العامل المحور مآربه.

ومن نظريات العامل الواحد، النظرية الماركسية التي تبني كل الظواهر الاجتماعية من فكر ولغة وغيرها، على أساس الوضع الاقتصادي المبني على أساس تطور وسائل الإنتاج.

وقد رفض الإسلام هذا التصور عن الواقع التاريخي (نظرية العامل الواحد) ورجح التصور الثاني، مع تعديل أساسي عليه. فاعتبر "أن الفطرة الإنسانية فطرة ثابتة أصيلة محركة، وأن كل ما ينبعث من الفطرة من غرائز ودوافع يتخذ له صفة دوافع رئيسية، لا يفتر عن الدفع نحو الكمال وانتخاب الأحسن، وفق الانشداد بالمطلق الحقيقي الذي يوفر مسيرة مطمئنة، وهدفاً أكبر من وجوده دائماً".

وليس التأكيد على الفطرة هذه يعني رفض أي دور حقيقي آخر لأي شيء في حياة الإنسان، بل هناك عوامل أخرى تشترك مع الفطرة في صنع التاريخ تتمثل في:
أ- التثيرات التكوينية للقوانين المحسوسة، منها وغير المحسوسة: وقد عبر عنها بالسنن.
ب- التأثيرات التكوينية للفطرة الإنسانية بما فيها من غرائز: وأهمها غريزة حب الذات.
ج- الفكر والإرادة الإنسانيان: وهذه لها أهميتها الفائقة في صنع التاريخ الإنساني.
د- الدوافع والتأثيرات الكبرى للتوجيهات السماوية عن طريق الأديان التي تشكل نقاط الضوء في التاريخ البشري.

بعد ذلك شرع المؤلف- في القسم الثاني- في عرض بعض مواقف المسلم من بعض قضايا الواقع وتعامله معها. وهذه المواقف هي:
أ- الموقف المتناسق من الكون المتناسق:

 فتصور المسلم عن الواقع يتمثل في أنه يرى الكون كلا متناسق الأجواء مترابطها، وقد وضع فيه كل شيء في محله، ونظم وفق هدف معين. وإذا ما تأكدت هذه الحقائق في خلده، وعى أن عمله يجب أن ينسجم مع هذا التناسق الكوني ليشكل بدوره أحد طرفي التوازن الكوني- البشري.
والانسجام مع الكون يعني التسليم للحقيقة الكبرى (الله) والشكر لها، وعدمه يعني الظلم والكفر والخسران والضياع.
وبما أن المسلم يجهل تفصيلات الانسجام مع الكون وكيفية تحقيقه، فقد احتاج إلى إرشاد الله تعالى، حيث يتجلى بشكل تعاليم ومفاهيم وتنظيمات تشريعية، عليه أن يعمل بها، وأي عصيان لأي تشريع إلهي يعرض هذا الانسجام للخطر.
"وبتحقق الانسجام يشعر الإنسان بتوازن روحي عجيب، واطمئنان ما بعده اطمئنان.
مسيرة واحدة في الكون إلى هدف واحد، يظللها رضا خالقها، وتسدد خطاها القوانين المعنوية في الكون تحت قيادة الأنبياء والأئمة المعصومين".

ب- موقف العبودية المطلقة والشكر لله مع الاعتراف بفضل المخلوق:
فالإسلام قد دعا الإنسان المسلم أن يلتزم بعبادة الله سبحانه والتحقق بمقام العبودية له، كما دعا في ضمن ذلك للتحرر من كل العبوديات الأخرى التي قد يقع في شباكها، ولكن هذه الدعوة إلى التحرر عمّا سوى الله سبحانه، لا تعني أن ينكر الإنسان أي فضل للمخلوقات وللآخرين الذين يتعاملون معه، فلا يشكرها ولا يحس لها بجميل ومنّة مطلقاً، كلا، فإن الإسلام دعا أيضاً لشكر المخلوق في طول شكر الخالق، وجعل جزاء الإحسان هو الإحسان، لئلا يضيع المعروف، وليقوم الترابط العاطفي بين المخلوقات، وخصوصاً بين المخلوقات الشاعرة، فيتم تبادل التعاون وعملية الاستخدام الإنساني لصالح المسيرة الكمالية ككل.

ج- موقف الأمل بالله تعالى مع الاطمئنان ببقاء السنن الكونية:
فالإنسان المسلم في ضوء إيمانه بطلاقة المشيئة الإلهية، يحدوه الأمل بالله تعالى، وبتفريج همومه، وبتسيير أموره مهما تعسرت، لكن هذا الأمل لا يحد من اعتماده على سلوك السبل الطبيعية للأمور أو يجعله اتكالياً، فالإنسان المسلم يعيش حالة توازن دائم بين الأمل بالله تعالى واعتماد السبل الطبيعية في تحقيق المطالب.

د- موقف التوكل على الله والثقة بالنفس:
فإن اعتقاد المسلم بالإرادة الإلهية يجعله يوكل أموره إلى الله، إلا أن هذا التوكل لا يفقده الثقة بنفسه وبقدرته على التغيير، بل يمنحه أعظم الثقة بنفسه، وذلك لأنه يتصور أن الله سبحانه منحه سلطان التغيير، وجعله خليفته على الأرض.

هـ- موقف العلو على المشاكل التاريخية مع تقدير دور كل عامل:
"فبعد إيمان المسلم بأن العوامل المحركة للتاريخ مختلفة تتراوح بين القوانين التكوينية المحسوسة وغير المحسوسة، إلى الفطرة بغرائزها، وفوق كل ذلك لإرادة الإنسانية التي تهيىء للإنسان مجال التحكم في مسيره.. يكون قد علا على المشاكل التاريخية، بعد أن علم بأن له اختيار تنظيم حياته، وبيده صنع حضارته، فليست المشكلة التاريخية مفروضة عليه من الأعلى بحيث لا يمكنه أن يتحرك تجاهها، وإنما يمكنه- متى لاحظ عدم صلاح واقعه- أن يغيره".
وهذا التصور يعطيه حركية دائمة تعمل على التطوير والتقدم التكنيكي، كما تعمل على التكامل المعنوي والفكري.

و- موقف الدقة في اختيار سبيل الخير مع الحذر من سبل الشر:
 الذي يتخذه المسلم حين خوضه في تجربة الحياة ممتثلاً بذلك للإرادة الواعية الكامنة في نفسه، ولإرشادات الوحي الإلهي.

ز- موقف الخوف والرجاء:
 فالإنسان المسلم هو في حالة خوف دائمة من الله تعالى مصاحبة بالرجاء له تعالى.
وهذان المفهومان (الخوف والرجاء) متساويان في نفسه بحيث لا يغب واحد صاحبه.
جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: كان أبي يقول: "ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على ها، ولو وزن هذا لم يزد على هذا".

ح- الموقف المتوازن من الدنيا والآخرة.
ويتلخص هذا الموقف بالآية الكريمة:  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - القصص - الآية - 77
حيث يتحدد الهدف المقصود، بالآخرة والرضوان الإلهي الذي هو روح الحياة الآخرة.

وإذا كانت الآخرة هي الهدف، عادت الدنيا وسيلة تحقيق الهدف، وأصبحت "نعم العون على الآخرة" و"دار مجاز" كما روي عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام. "إلا أن هذه النظرة لا ينبغي أن تصل إلى حد ينسى الإنسان فيه نفسه وغرائزها ومتطلباتها الذاتية.. كلا، فإن ذلك يعني من جهة أخرى نوعاً من عدم الانسجام مع الواقع الفطري، فالغرائز جزء من الفطرة. ومن هنا طلب إلى المسلم أن لا ينسى نصيبه من الدنيا، أي من المتع المادية التي يشبع بها متطلبات غريزته، مع تشويقه بحد أعلى لأن يؤطر هذا الإشباع المادي نفسه بإطار الآخرة، وقصد القرب إلى الله تعالى".
"وبهذا يحصل التوازن الصحيح بين الموقفين، بل يتحد الموقفان في موقف واحد تشبع به الروح حتى ترتوي، ويشبع به الجسم بمقدار ما يحقق له أفضل ما يريد، دون تحقيق كل ما يريد".

ط- موقف التوازن في تقدير عمل الهدايات:
فالإنسان المسلم بمعرفته لعمل الغرائز والعقل والوحي يتحدد موقفه منها، فهو من جهة لا يكبت تلك الغرائز بل ينفس عنها بمقتضى إرادته وطبق منهج تطبيقي يوحى به من السماء ضمن تخطيط تشريعي عام موحد للحياة.

ك- موقف التوازن بين البرهنة والتعبد والتسليم:
حيث نجد هذا التوازن في العقائد الإسلامية، التي ترتكز العقائد الأساسية منها كالإيمان بالله والنبوة على البرهان في حين يستند البعض الآخر منها على التسليم المطلق والعمل بإرشادات الوحي، وبعض كالآخرة يستند- إضافة إلى الوحي- على البرهنة والإقناع والتمثيل.

هذا في حين نجد التعبد والتسليم في التشريع أساساً أصيلاً من أسس الشخصية الإسلامية.

بعدها انتقل المؤلف إلى الكلام عن التوازن في المجال التشريعي ليبحث فيه أمرين:

 الأول: يختص بخطوط عامة في التشريع ترتبط بالتوازن والثاني: يتعرض لبعض سمات التوازن في كل نظام من الأنظمة التشريعية.
ومن هنا، فقد عرض في المبحث الأول لخمس خطوط في التوازن، أولها التوازن بين التشريع وأرضيته وثانيها الوحدة والتوازن في تطبيق كل الأنظمة الإسلامية، وثالثها الموازنة بين الإلزام وطلب التطوع، ورابعها الموازنة بين التحديد في المجالات المتغيّرة، وخامسها الموقف المتوازن من الحرية الإنسانية.

أما بالنسبة للمبحث الثاني (صور من التوازن في النظم الإسلامية) قد عرض المؤلف لبعض نماذجه، وهذه هي:
أولاً:
النظام التربوي يشبع الغرائز والميول إشباعاً متوازناً:
خلال دراسته للنظام التربوي، عرض المؤلف للكلام عن الخطوط العامة التي تحقق التوازن في الإشباع التشريعي للغرائز وهذه تتمثل بـ:
1- عدم الكبت.
2- تنمية الاستعدادات المعنوية، وتركيز الحب على مجالاته الأصيل وتهذيب الغرائز الطاغية: وهذه تتوفر من خلال:
أ- الارتباط بالكامل المطلق والتوجه إليه: حيث التعلق بالله تعالى وحده، والحب الأصيل يرتكز فيه تعالى- وهو الكمال المطلق- وحده، وحيث يكون الارتباط بالله تعالى معيار الحب.
ويأتي في طول هذا الحب حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليه الصلاة والسلام الملازم لحب الله تعالى.

ب- ترك كل ميل لسوى الله تعالى: ويأتي على رأس هذه الميول حب الذات الذي هو أم الغرائز، ويتفرع عنه حب المال والنعم والأولاد.
ولم ينكر الإسلام هذه الميول الأصيلة في الشخصية، ولم يلغها، بل عمل على توجيهها الوجهة الصحيحة، ووضعها في المسار الصحيح الذي رسم لها.
بعد ذلك عرض المؤلف للكلام عن المحسوس والمعقول، وآثارهما وموقف الإسلام منهما.

ثانياً: صور من التوازن في النظام الجنائي الإسلامي: حيث استفاد الإسلام في هذا النظام من الجزاء الأخلاقي ومحاسبة الضمير والوجدان، كما استفاد من الجزاء الطبيعي للجرائم، وأكد أيضاً على الجزاء الاجتماعي، وأخيراً، وفوق كل هذه الأنماط، جاء الجزاء الأخروي العظيم الذي يشكل أقوى عناصر الردع عن الجريمة.
"ولئن كانت لكل من هذه الأنواع فوائد ونواقص، فإن مجموعها والتوازن بينها هو الذي يحقق الغرض المنشود من العقوبات، في حين فقدت المبادئ الوضعية بعض هذه العقوبات فضجت من الجريمة.

ثالثاً: صور من التوازن في النظام الاقتصادي الإسلامي:
وقد عرض المؤلف لأربع صور من هذا التوازن تمثلت بـ:
1- التوازن بين أشكال الملكية:
حيث وازن الإسلام بين الملكية الفردية والملكية العامة، فقال- وخلافاً للنظام الرأسمالي الذي يقول بمبدأ الملكية الفردية، وخلافاً للنظام الشيوعي الذي يقول بمبدأ الملكية العامة- بمبدأ الملكية المزدوجة.

2- التوازن الاجتماعي الذي حققه الإسلام: وذلك عبر جعل الدولة مسؤولة عن تحقيق أمرين أساسيين هما:
أ- الضمان الاجتماعي والذي يقوم بدوره أيضاً على أساسين مهمين هما:
مبدأ التكافل العام الذي يقوم على إشباع احتياجات الآخرين وفقاً لمبدأ الأخوة، والحق الذي تعطيه للجماعة في مصادر الثروة التي تستثمرها الدولة باعتبارها قائمة على مصالح المجتمع.

ب- التوازن الاجتماعي بمعنى أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، وأن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً في المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد نظراً لتفاوت أفراد النوع البشري في الخصائص والصفات والمميزات.
3- التوازن بين نوعيتي الإنتاج والتوزيع.
4- التوازن بين الإسراف والتقتير والاكتناز.

رابعاً: التوازن في نظام العبادات:
وقد استعرض المؤلف بعض أنواع هذا التوازن، ونحن نختصرها فيما يلي:
أ- التوازن في مجال الارتباط بالمطلق.
ب- التوازن بين الحرية الإنسانية والعبودية لله.
ج- التوازن في إشباع غريزة التدين.
د- التوازن بين عزل المسجد عن الحياة وحصرها فيه.
هـ- التوازن بين المصلحة الذاتية والمصلحة الخاصة.
و- التوازن بين الاتجاه العقلي المحض والاتجاه الحسي المحض.
ز- التوازن بين الغيب ووعي المصالح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع